عرض مشاركة واحدة
  #12  
قديم 05-27-2010, 12:21 AM
الصورة الرمزية مُنتهى آلرقـه
مُنتهى آلرقـه غير متواجد حالياً
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: الأمآكن الي مريت إنت بيهآ .,,
المشاركات: 1,259
مُنتهى آلرقـه is on a distinguished road
افتراضي

في اليوم التالي, قصدت السوق المجاور لملء البراد والتبضع بالمواد الغذائية, فلم يكن بإمكاني الإقامة في بيت, بدون الإنفاق عليه.

كنت أتجول مكتشفاً مساحيق فرح نهايات الأسبوع على وجه باريس المرتجفة برداً, عندما استوقفني محل جزار يزين خطاطيفه الحديدية برؤوس الخنازير الوردية المعلقة, حاملة بين أسنانها قرنفلة ورقية حمراء.

بقيت للحظة أتأملها, متسائلاً أهي إهانة للقرنفل أن يوضع في فم خنزير؟ أم الإهانة أن يتحول رأس كائن حياً إلى مزهرية لدى جزار؟



أعادني المشهد إلى السبعينات, يوم كان جيراننا الأوربيون الآتون من أوربا الشرقية, لا ينفكون يخططون بحماسة ولهفة, لنهايات الأسابيع التي يذهبون فيها زرافات لاصطياد الخنازير البرية في الغابات المنتشرة على مشارف العاصمة.

اليوم, لا أحد يجرؤ على القيام بجولة صيد, مذ أصبح القتلة ينزلون مدججين بالسواطير والفؤوس وأدوات قطع الرؤوس, ليصطادوا ضحاياهم من البشر من بين القرويين العزّل, ويرحلون تاركين للخنازير البرية مهمة قطع أرزاق من بقي على قيد الحياة, بإفساد وإتلاف محاصيلهم...

كان اصطياد رأس خنزير ومطاردته في الغابات, يأخذ من الصيادين آنذاك وقتاً وجهداً أكثر مما يأخذه اليوم قطع رؤوس عائلة بأكملها من القرويين الذين يعرف القتلة تماماً مواقع أكواخهم ولا يجدون صعوبة في ذبحهم كالنعاج.

وكانت العودة برأس خنزير واحد, تملأ الصيادين الأوربيين آنذاك زهواً. لكن صيادي الطرائد البشرية يلزمهم كثير من الرؤوس كي يضمنوا فرحة وجودهم على الصفحات الأولى للجرائد, فهم يشترون برؤوس الآخرين صدارة خبر تتناقله وكالات الأنباء.

هكذا ولدت ظاهرة الرؤوس البشرية المعروضة للإشهار أ, للاستثمار, وأخرى للفرجة أو للعبرة, كتلك التي حدث لأمراء الموت عندما وجدوا متسعاً من الوقت, أن زينوا بها أشجار القرية كما أشجار أعياد الميلاد, وفخخوها لتكون جاهزة لتنفجر في أول من يحاول "قطف" رأس قريبه.



في حرب "الرؤوس الكبيرة" التي بسقوطها يسقط وطن في مطب التاريخ, وتلك الصغيرة التي يلزم منها الكثير لتصنع خبراً في جريدة, وتلك النكرة التي لن يسمع بقطافها أحد, لا تستطيع إلا أن تتحسس رأسك, حتى وأنت أمام واجهة جزار في باريس. وتحزن من أجل القرنفل البلدي, الذي كان يتفتح في طفولتك, باقات من القرنفلات الصغيرة, بذلك الشذى الذي ما عدت تشتمه في الورود, مذ قصفت أعمارها إكراماً لقصابي العالم المتحضر.

في مدينة كان هنري ميلر يتجول فيها جائعاً, وفي حالة انتصاب,متنقلاً وسط حدائق" , التويلري" غير مبصر سوى أجساد نسائية من رخام, عساها تغادر عريها الرخامي وترافقه إلى فندق تشرده, لم أكن أنا سوى الرؤوس المعلقة في أي مكان, لأي سبب كان.

حتى مومسات (بيغال) المنتشرات على أرصفة الليل, في هيئة لا يصمد أمام غواية التلصص على عريهن رجل, لم أستطع وأنا أعبر شارعهن أن أقيم مع أجسادهن العارية تحت معاطف الفرو, أية علاقة فضول. فقد كن يذكرنني بمشهد آخر تناقلت تفاصيله الصحافة العالمية لمومسات البؤس العربي. مشهد لو رآه زوربا لأجهش راقصاً, لنساء علقت رؤوسهن على أبواب بيوتهن البائسة في مدينة عربية, لا تخرج من حرب إلا لتبتكر لرجالها أخرى. وريثما يكبر الجيل الآتي من الشهداء, كانت تفرغ البيوت من رجالها, ومن أثاثها, ومن لقمة عيشها, لتسكنها أرامل الحروب وأيتامها.

لكن لا تهتم , زوربا.. يا صديق الأرامل لا تحزن. الجميلات الصغيرات لا يترملن. إنهن يزين قصور سادة الحروب العربية. وحدهن البائسات الفقيرات يمتن غسلاً لشرف الوطن, كما مات أزواجهن فداءً له. وبإمكان رؤوسهن الخمسين التي قطعت بمباركة ماجدات فاضلات يمثلن الاتحاد النسائي, بإمكانها أن تبقى معلقة على الأبواب يوماً كاملاً تأكيداً لطهارة اليد التي قطعتها, كي يعتبر بها الفقراء الذين جازفوا بقبول مذلة " المتعة مقابل الغذاء", وتجرأوا على تمني شيئاً آخر في هذه الدنيا غير إضافة جماجمهم لتزيين كعكة عيد ميلاد القائد.

يخطئ من يعتقد أننا عندما ندخل مدناً جديدة نترك ذاكرتنا في المطار. كلً حيث يذهب, يقصد مدينة محملاً بأخرى, ويقيم مع آخرين في مدن لا يتقاسمها بالضرورة معهم, ويتجول في خراب وحده يراه.

" وما دمت خربت بيتك في هذا الركن الصغير من العالم فسيلاحقك الخراب أينما حللت". ولكنك لم تكن قد سمعت بعد بقول ذلك الشاعر, ولا كنت تظن أن حقيبتك محملة بهذا الكم من الجماجم. و إلا ما كنت سافرت.

فاكتب إذن, أنت الذي مازلت لا تدري بعد إن كانت الكتابة فعل تستر أم فعل انفضاح, إذا كانت فعل قتل أو فعل انبعاث.

تتمنى لو أطلقت النار على كل الطغاة بجملة, لكن من تنازل أيها الكاتب بقلم, في نزال كل غرمائك فيه يتربعون على عروش من الجماجم.



كان عليك قبل أن تهجم على الأوراق أن تختار كلماتك بعناية ملاكم , أن تصوب ضرباتك إلى القتلة, بأدنى قدر ممكن من المجازفة. أن تكتسب تلك الموهبة. موهبة كتابة كتب غيبية, تسعى إلى سلامة صاحبها وراءته, غير معني بما تسببه رواية رديئة من أضرار, ولا جبن كاتب لا يمكن لقارئ أن يأتمنه على حياته أو يوصيه ثأراً لدمه.

من تكون.. لتحاول الثأر لكل الدم العربي بكتاب. وحده الحبر شبهة أيها الجالس على الشبهات. أكتب لتنظيف مرآبك من خردة العمر, كما ينظف محارب سلاحاً قديماً.

مازال للقتلة متسع من الجاه.ولا وقت لك إلا ساعته, تدق بعده في معصمك.. تمد يدك بما يلزمها من القوة للكتابة.

وبرغم هذا, قد لا تجد الشجاعة لتقص عليه ما حل بتلك اللوحة!
رد مع اقتباس