عرض مشاركة واحدة
  #14  
قديم 05-27-2010, 12:22 AM
الصورة الرمزية مُنتهى آلرقـه
مُنتهى آلرقـه غير متواجد حالياً
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: الأمآكن الي مريت إنت بيهآ .,,
المشاركات: 1,259
مُنتهى آلرقـه is on a distinguished road
افتراضي

دفترها أمامي. وساعة يده في معصمي. وكل هذا الوقت المكفن ببياض الورق في متناولي. وأنا أكتب عنها كما كنت أمارس الحب سراً معها, بالشراسة نفسها. في الحلم, كان يأتي اشتهائي إياها عنيفاً لأنني أرفضها في اليقظة, وعندما كان ينتهي ذلك الفسق الحلمي, كنت أصرخ باسمها, ويجهش جسدي سراً بالبكاء, ثم أحزن وأكره يدي لساعات, أكره كل أعضائي التي تأتمر بأمرها.

باليد إياها أكتب. بالعنف نفسه أستحضرها على الورق, ذلك أنه يلزمني الكثير من الفحولة لمواجهة عري البياض. ومن لم ينجح في مقاربة أنثى, لن يعرف كيف يقارب ورقة. فنحن نكتب كما نمارس الحب. البعض يأخذ الكتابة عنوة كيفما اتفق. والآخر يعتقد أنها لا تمنحك نفسها إلا بالمراودة, كالناقة التي لا تدر لبناً إلا بعد إبساس, فيقضي أعواماً في ملاطفتها من أجل إنجاز كتاب.

لكن كيف لك أن تلاطف ورقة, وتجامل قارئاً, عندما تكتب على إيقاع الموت لشخص ما عاد موجوداً, مصراً على إخباره بما حدث.

ما نفع العلم الذي يزيد الأموات حزناً!؟



كانت حياتي مع فرانسواز قد بدأت هادئة وجميلة, ولكن بدون لهفة ولا شغف, يؤثثها ذلك الصمت الذي يلي ضجة الجسد, تلك الخيبة الصامتة, الندم المدفون تحت الكلمات.

كل صباح, كان الندم الجميل يأخذ حماماً, يدخن سيجارة, يضع قبلة على الشفتين الشاحبتين. الندم الذي كان يدري أن الوحدة أفضل من سرير السوء, كان يلهو باختبار سرير جديد, كما ليكذب ندمه. فمن عادة النوم أن يثرثر كثيراً قبل الحب وبعده, كي يقنع نفسه أنه ليس نادماً على ما ليس حباً!



استيقظن في اليوم التالي, فلم أجد فرانسواز. ربما تكون نهضت باكراً إلى المعهد.

قررت أن أتناول قهوتي الصباحية مع فينوس, الأنثى الوحيدة الموجودة بالبيت. كانت في وقفتها تلك في ركن من الصالون بحجم امرأة حقيقية, تبدو كأنثى تستيقظ من نعاسها الجميل على أهبة التبرعم الأنثوي الأخير, تنتظر لهفة يديك, أو أوامر من عينيك, لتسقط ملاءتها أرضاً وتصبح امرأة.

كانت مثل أشياء ذلك البيت, تخفي نصف الحقيقة, ملفوفة بانسياب يغريك بالبحث عما تحت ثوبها الحجري.

أنت لن تعرف شيئاً عنها, سوى أنه هو الذي اقتناها لأنها أنثاه. والمرأة التي بإمكانه أن يعيش معها بدون عقد,إنها أكثر منه عطباً. ولكن ذلك لن يمنعها من أن تكون الأنثى الأشهر والأشهى.

وأفهم أن يكون رودان قال إن لها القدرة على إلهاب الحواس لأنها تمثل بهجة الحياة. هي دائمة الابتسام, تستيقظ بمزاج رائق كل صباح. لأنها, وهي إلهة الحب والجمال, لم تتلوث برجل. إنها أنثى بشهوات مترفعة!

حتماً هي أسعد من نساء يقضين عمرهن كشجرة المطاط التي تزين الصالون, في انتظار أن يتكرم عليها صاحب البيت بالسقاية... مرة كل أسبوع!



لاأدري كم من الوقت قضيت في التباس جسدي معها. أجيل نظري في جغرافية رغباتها؟ أتأمل جمالية أنوثة تحيط كل شيء فيها بلغز.

في حياة المصور كثير من الوقت الصامت, من الساعات المهملة, ومن تلك الحياة البيضاء التي تسبق الصورة.

ذلك الضجر المتيقظ, يخلق عنده وقتاً للحلم, ولذا بإمكانه أن يقضي ساعة في تأمل شجرة.. أو حركة الريح العابثة بستائر نافذة. أو انعكاس ضوء منار بحري على البحر, كذاك الذي كنت أقضي ساعات في تأمله.. في ليل " مازافران".

لكن وحدها فينوس تعطيك الإحساس أن الجمال كما الحب والبهجة, كانزلاق ثوبها الحجري, أشياء قد تكون عند قدميك, إن توقفت عن الركض قليلاً, وتأملت الحياة.

ولذا, كان ذلك الوقت الصباحي الذي قضيته معها, أجمل من وقت ليلي قضيته مع غيرها.

لم أحاول استنطاقها بعد ذلك. ككل الأشياء الشامتة صمتاً في ذلك البيت. هي لن تقول أكثر. ماجدوى أن أنتزع منها اعترافات مخادعة؟

حيث أنا قريب منها غريب عليها, لن أرى شيئاً. وحده شكي يرى.



في خلوتي الأولى بالأشياء فقدت القدرة على رؤيتها. فقدت حتى تلقائية فهم أنني أثناء استنطاقها أصبحت بعض ذاكرتها. لقد شيأتني, وإذ بي الشيء العابر بها .. كغيري. وهي الكائن المقيم الثابت الشاهد علي.

بعد ساعة من الذهول الشارد أمامها تركت فينوس وخرجت إلى الشرفة أكتشف المنظر وألقي تحية الصباح على " جسر ميرابو".

استناداً إلى رواية تلك الكاتبة التي لا تصدق إلا في الروايات, بإمكاني أن أكون واثقاً على الأقل من أنهما وقفا هنا ذات مطر..

كما اليوم, وأنه قبّلها طويلاً هنا على مرأى من الجسر, بعد أن قرأ عليها شيئاً من قصيدة السياب.

أما زال الجسر يذكر قبلة جزائريين ائتمناه على حبهما؟ وتحت قدميه الأبديتين يجري نهر لم يؤتمن على أرواح الجزائريين ذات أكتوبر 1961 عندما طفت عشرات الجثث التي ألقيت إليه مكبلة؟



لو أن للسين ذاكرة لغير الحزن مجراه.

اثنا عشر ألف معتقل فاضت بهم الملاعب والسجون, وستمئة مفقود وغريق توقف قدرهم فوق الجسور الكثيرة التي لم تول النظر لجثثهم الطافية وهي تعبر تحتها.

أفهم عجز خالد في تلك الرواية على إقامة علاقة ود مع هذا المنظر الجميل.

لست عاتباً على نهر " السين" ولا أنا على خلاف معه. فذاكرة المياه المحملة عبر العصور بجثث من كل الأجناس, لا تستطيع أن تفرق بين الهويات, ولا يمكنها التمييز بين جثث الفرنسيين الذي ألقوا سنة 1789 إلى هذا النهر باسم الثورة.. وجثث الجزائريين الذين ألقوا إليه على مسافة قرنين بتهمتها.

جميعها دفعتها في اتجاه المصب.

أنا أثق في براءة الأنهار, ولا أشك سوى في النوايا الطيبة للجسور. شكي في الشعارات الكبيرة للثورات. فعندما أعطت الثورة الفرنسية اسم أحد خطبائها لجسر, كان في الأمر خدعة ما.

ميرابو الذي وقف في البرلمان الفرنسي ليقول جملته الشهيرة " نحن هنا بإرادة الشعب ولن نغادر إلا على أسنة الرماح". أكان يدري أنه بعد قرنين سيكون شاهداً على حرب ضد إرادة شعب آخر؟

أغلقت النافذة, غير دار أين أمضي بقاطرة عمري المزدحمة بأحزان الآخرين. حيث أحل تطل شرفتي على فاجعة. وإذ بي حتى هنا في باريس, كمن لفرط جوعه لا يعرف الجلوس إلى مائدة الحياة العامرة. أصنع تعاستي من ذاكرة الفقدان حيناً,. وحيناً من ذاكرة الحرمان.

أخذت حماماً, ونزلت أكتشف الحي الذي أقام فيه خالد لسنوات. ذلك أنني مذ دخلت بيته استعاد زيان اسمه الأول, كأبطال بول إستر الذين يلتقطون دائماً شيئاً من الطرقات, كنت أتسقط أخباره, أتعقب آثاره. أجمع غباره في الشوارع, متقصياً, سائلاً كل مكان قد يكون عنى له شيئاً, مستعيناً بتلك الرواية, كما لو كانت دليلاً سياحياً لمعالم سبقني إلى زيارتها.

كنت أختبر الافتتان ببطل رواية, وأسطو على سحره متماهياً معه حيث أمر.

أكنت أتعقب آثار رجل.. أم أتشمم رائحة حب؟



كانت المسافات تبدو واهية بيني وبينه. أحياناً كنت أعيش المواقف, كما لو كنت هو. مقتفياً أثره في الأسرة والشوارع والمعارض والمقاهي. كنت أضاجع نساءه في سرير كان سريره. أعطي مواعيد في المقهى الذي كان يرتاده. أتأمل جسر ميرابو من شرفة بيته, أحتسي قهوة أعددتها في مطبخه, أجالس أنثاه الرخامية المفضلة, وفي المساء أخلد إلى النوم على سرير ترك عليه بعض رائحته.. وكثيراً من أرقي. أفكر طويلاً في تلك المرأة نفسها التي منعته منذ سنوات من النوم. أليس الأمر غريباً حقاً؟

لأسباب أجهلها, ما زلت على لهفة الانتظار ويأس اللقاء.

تلك المرأة التي بذريعة تعقب غيرها ما كنت أقتفي أثر سواها, سأضع اليوم يدي على مكمن سرها. فقد أهدتني مصادفات الحياة الموجعة موعداً مع رجل ينام في سرير بمستشفى ( Ville juive ) ادعت أنه لا يوجد سوى في كتابها.

ذلك أن أبطال الروايات غالباً ما يمرضون.. بسبب مؤلفيهم!



كنت أعي أن موعدي مع زيان, أياً كان نوعية العلاقة التي ستتم بعده, والنتائج التي ستنجم عنه, هو حدث في حياتي. وعلي أن أستعد له بذلك القدر من الحيطة العاطفية, حتى لا أفسده بعد أن أخذ مني الأمر شهراً في مطاردة فرانسواز لإقناعها بضرورة أن أتعرف عليه.. ولو على سرير المرض.
رد مع اقتباس