عرض مشاركة واحدة
  #19  
قديم 05-27-2010, 12:27 AM
الصورة الرمزية مُنتهى آلرقـه
مُنتهى آلرقـه غير متواجد حالياً
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: الأمآكن الي مريت إنت بيهآ .,,
المشاركات: 1,259
مُنتهى آلرقـه is on a distinguished road
افتراضي

كانت الساعة الثانية ظهراً عندما قصدته.

صادفت ممرضة غادرت غرفته. سألتها عن وضعه الصحي.

قالت:

- في تحسن.

ثم واصلت:

- إن كنت من أقاربه أقنعه بعدم مغادرة المستشفى هذا الأسبوع.

- لماذا ؟ هل طالب هو بذلك؟

- أجل.. يريد أن يزور معرضه ويجمع لوحاته عند انتهاء المعرض. لكن الطبيب يخشى أن يتسبب هذا الجهد في انتكاس صحته.. هل هو رسام؟

- رسام كبير.

أريتها المجلة التي كنت أحملها في يدي عسى ذلك يمنحه حظوة خاصة لديهم.

قالت مكتفية برؤية صورته وعنوان المقال:

- فعلاً.. يبدو كذلك. يحتاج إذن لعناية أكثر, فالفنانون مفرطو الحساسية.

عندما دخلت عليه, أضاءت وجهه فرحة المفاجأة. نهض من سريره يسلم علي بحرارة. وجلس قبالتي على الكرسي الجلدي.

بادرني:

- وَينك.. حسبتك نسيتني!

- طبعاً لا.. انشغلت ببعض الأمور.

لم أشأ أن أخبره بوجود ناصر في باريس. وماكنت لأخبره طبعاً بوصول حياة ووالدتها اليوم.

واصلت:

- أراك اليوم أفضل.. حتى الممرضة تجد صحتك في تحسن.

- ربما.. لكنني سأكون أحسن لو زرت المعرض. أحب أن أرى لوحاتي مرة أخيرة قبل أن تباع, وأن أجمع ما بقي منها.

مددته بالمجلة:

- بالمناسبة أرسلت لك فرانسواز معي مقالاً صدر في مجلة " سثزء" عن معرضك. اطلعت عليه في المترو.. مقال جيد.

- سأقرؤه لاحقاً.

قلت وأنا أبحث عن شيء آخر قد يسعده:

- أحضرت لك أيضاً الصورة التي منحوني جائزة عليها, وطلبت مني أن أحضرها لك.

دبت فيه حماسة مفاجئة. أخذها مني, وراح يتأملها بعض الوقت:

- مؤثرة حقاً. الموت فيها يجاور الحياة, أو كأنه يمتد إلى ما يبدو حياة برغم أنه لا يمثل فيها سوى جثة كلب.

قاطعته, مستأذناً منه فتح المسجل حتى لا أفوت شيئاً من حواراتنا.

أجاب بشيء من التعجب:

- افعل إن شئت. ] ثم واصل[ أفهم أن يكونوا منحوك جائزة على هذه الصورة. في الحرب يصبح موت حيوان موجعاً في فجيعة موت إنسان, ككلب تجده ميتاً مضروباً على رأسه بالحجر بعد أن قتله الإرهابيون ليتمكنوا من دخول بيتك. جثته مشروع جثتك.

ثمة صورة تحضرني الآن, هي منظر جثث الحيوانات التي كنا أيام حرب التحرير أثناء اجتيازنا الحدود الجزائرية التونسية نصادف جثثها تكهربت وعلقت في الأسلاك , أثناء محاولتها اجتياز خط موريس, أو تبعثرت أشلاؤها وهي تمر فوق لغم. دوماً كنت أرى فيها إحدى احتمالات موتي أو عطبي. ولم يخطئ إحساسي إذ انفجر لغم وذهب يوماً بذراعي.كل جثث الكائنات التي كانت حية, تتشابه. ولذا الذين يسرعون بدفن كلب أو قط ما كانوا يسرعون لإطعامه يوم كان حياً. يفعلون ذلك لأنهم يروا في جثته رفاتهم.

- يسعدني رأيك. عذبتني التأويلات الكثيرة لهذه الصورة. خاصة من الصحافة الجزائرية التي رأت بعضها أن فرنسا كرمت في هذه الصورة كلاب الجزائر.. لا موتاها.

أجابني مبتسماً:

- وهذا أيضاً تأويل فيه صواب. مع أن البعض لا يأخذ من التأويلات إلا ما يضرك . لمتعة إفساد فرحتك بالنجاح. ولكنهم هنا يستندون إلى حقيقة أن الإنسان الغربي أكثر شفقة على الحيوان منه على الإنسان, مما جعل المتسولين والمشردين يخرجون إلى التسول بصحبة كلب وأحياناً كلبين. تراهم جالسين على الأرصفة مع كلابهم الضخمة النائمة أرضاً بعدما أدركوا أن الكلب شفيعهم لدى المارة. سمعت أحدهم يقول مرة على التلفزيون إن الناس يتصدقون على كلبه وليس عليه, وإن إحسانهم ليس رأفة به وإنما بكلبه, فقبله كان يموت جوعاً. في بلاد يحسن فيها الإنسان للحيوان لا لصاحبه, من المنطقي أن يكرم جثة كلب.. لا صورة طفل بائس جواره!

أصابتني حججه بحزن إضافي. لكنها أضافت إلى إعجابي به انبهاراً بمنطقه السليم في التحليل وهو يقول بعد شيء من الصمت كأنه وقع على اكتشاف جديد:

- ثمة مع الأسف احتمال آخر لاختيارهم هذه الصورة , إنها شهادة عن وفاة الثورة الجزائرية, متمثلة في وحدة مصير الإنسان والكلاب في الجزائر بعد سبع سنوات من النضال, وأربعين سنة من الاستقلال. فيها إراحة للضمير الفرنسي وتشف مستتر.

قلت بنبرة أسىً قاطعاً صمت حزن فاجأنا:

- ما عاد يعنيني أن أعرف شيئاً عن هذه الصورة. بل كيف أتخلص من مال هذه الجائزة بعمل يعود ريعه لضحايا الإرهاب.

ثم أضفت وقد تذكرت شيئاً:

- بالمناسبة : ثلاث من لوحاتك بيعت البارحة.

قال بسعادة:

- جميل.. لا أدري أياً منها بيعت.. لا يهم. أظنها ستباع جميعها.

قلت بعد شيء من الصمت:

- لا أفهم أن يتخلى رسام عن كل لوحاته دفعة واحدة. في هذا الفقدان الكامل والفوري إشعار بالفاجعة وإصرار على الخسارة.

- أتعتقد هذا؟

صمت حتى ظننت أنه لن يضيف شيئاً. لكنه واصل بدون توقف, وبحزن هاتف يرن طويلاً ولا يرفعه أحد:

- الفاجعة.. أن تتخلى الأشياء عنك, لأنك لم تمتلك شجاعة التخلي عنها. عليك ألا تتفادى خساراتك. فأنت لا تغتني بأشياء ما لم تفقد أخرى. إنه فن تقدير الخسائر التي لا بد منها. ولذا, أنا كصديقي الذي كان يردد " لا متاع لي سوى خساراتي. أما أرباحي فسقط متاع",أؤثر الخسارات الكبيرة على المكاسب الصغيرة. أحب المجد الضائع مرة واحدة.

لو تدري كم من الأمور الغريبة كنت شاهداً عليها. لو تدري لبلغت عمق رحم الحكمة.

صمت قليلاً, ثم واصل:

- في 16 نوفمبر الماضي, شب حريق ليلاً في القاعة, حيث كان يعرض الرسام المغربي المهدي القطبي أعماله في مدينة ( ليل). أنا لا أعرف هذا الرجل. لكنه أصبح صديق فجائعي عندما قرأت في الصحف أن معرضه ذاك كان يضم خلاصة خمس وعشرين سنة من أعماله الفنية.

ثلاثون سنة قضاها في باريس مثابراً على إنجاز لوحات أخذت منه أجمل أعوام عمره, حرم فيها نفسه من كل شيء لينجز معرضاً بدل أن يحضره الزوار زارته النيران.

في هذه الحالة, قد تقول, ليت اللصوص هم الذين حضروا بدل النار. ربما في الأمر عزاؤك. هكذا عودتنا الأخبار التي تنقل لنا بين الحين والآخر سرقات لأشهر اللوحات. غير أن السرقات كما الحريق, قسمة ونصيب, لا يحددها قدر اللوحات بل قدر أصحابها وشأنهم, ولذا أنت لن تسمع يوماً بنار التهمت لوحات بيكاسو أو فان غوغ.. كما لن تسمع بسارق غامر بسرقة لوحاتي!

قلت كمن يتمتم:

- غريب هذا الأمر!

قال متهكماً:

ثمة أقدار أكثر غرابة تذهب فبها اللوحات بنفسها إلى أعدائها وسارقيها. اسمع هذه القصة العجيبة: لي صديق عراقي يقيم في أوربا منذ عشرين سنة. رجل مهووس بالبصرة كهوسي بقسنطينة. لا يرسم إلا مدينته, لا يتحدث إلا عنها. وكان لشهرته, يعرض الكثيرون عليه شراء لوحاته تلك. وعلى حاجته كان يرفض ويقول: " إنني أحتفظ بها لذلك اليوم الذي يتحرر فيه العراق من طغاته, فأهدي يومها لوحاتي إلى متحف البصرة, مكانها الحقيقي".

ذات يوم زارته سيدة كويتية ثرية مشهورة بولعها باقتناء الأعمال الفنية وحبها لمساعدة المبدعين العرب في المنافي. وعبثاً حاولت إغراءه بشراء لوحاته, غير أنه أمام خوفه أن تتشرد لوحاته بعده, وثقة منه في تقدير تلك السيدة للفن, قبل عرضها في أن تحتفظ بها وتبقى في حوزتها حتى "تتحرر البصرة" فتسلمها بنفسها إلى متحف المدينة.

غير أن الذي حدث لا يمكن حتى لسينمائي أن يتصوره. بعد سنة من حيازتها اللوحات, قامت جيوش صدام بغزو الكويت, وأثناء احتلالهم قصرها وقعوا على لوحات الرسام, فأخذوها غنيمة حرب إلى العراق حيث اختفت أخبارها مع المختفين والمخطوفين. وربما تكون أعدمت نيابة عن صاحبها المحكوم عليه بالإعدام منذ عشرين سنة! أو ربما تكون زينت قصور الطغاة أنفسهم, أو قد تكون بيعت بسعر رخيص في سوق الخردة. فهكذا كان يفعل النازيون الذين كانوا عندما يريدون إذلال رسام كبير يصادرون لوحاته ويبيعونها بأسعار زهيدة لا تتجاوز أحياناً الثلاثين ماركاً!

كما ترى.. ثمة حكمة لا تبلغها إلا في عز وحدتك وغربتك, عندما تبلغ عمراً طاعناً في الخسارة. تلزمك خسارات كبيرة لتدرك قيمة ما بقي في حوزتك, لتهون عليك الفجائع الصغيرة. عندها تدرك أن السعادة إتقان فن الاختزال, أن تقوم بفرز ما بإمكانك أن تتخلص منه, وما يلزمك لما بقي من سفر. وقتها تكتشف أن معظم الأشياء التي تحيط بها نفسك ليست ضرورية, بل هي حمل يثقلك. ولأنني وصلت إلى هذه القناعة قررت أن أبيع جميع لوحاتي. حتى اللوحة الأحب إلى قلبي عرضتها للبيع, وضعت عليها إشارة توهم أنها محجوزة, في الواقع, أنا حجزتها خشية أن يشتريها من ليس أهلاً لها. إنها الوحيدة التي يعنيني أ، أعرف لمن ستكون. هل ستعلق على جدار قلب, أم على حائط بيت.

في النهاية, عندما تبدأ في الاختزال تكتشف أن عمرك كله قد يختصر في إنجاز واحد. أما الأكثر ألماً, فأن تترك إنجاز عمرك لقريب لا يقدر قيمته. يرثه منك بحكم صلة الدم لا صلة الفن.

هل يجوز أن أترك أعمالي لابن أخي الإرهابي, الذي قد يكون فنانون وكتاب قد قتلوا على يده؟ إن من يقتل بشراً لا يؤتمن على شيء.

ثم فجأة صمت, ذلك الصمت الذي يحدث فيك أثراً أكثر من الكلمات.

ذهب بي التفكير وقتها بعيداً. جمعت شجاعتي وقلت له:

- أريد أن أشتري منك هذه اللوحة.. هل تبيعني إياها؟

فوجئ بسؤالي. أجاب بذكاء من عثر على مخرج:

- ولكنك لا تدري عن أية لوحة أتكلم. كيف أثق في حبك للوحة لا تعرفها!
رد مع اقتباس