أجبته:
- أنا أحب كل أعمالك.. وهذه اللوحة خاصة. وقفت أتأملها طويلاً في المعرض ولم أفهم أن تكون بعتها!
أصلح من جلسته, ثم قال بنبرة متعجبة:
- تعرفها؟ كيف لك أن تعرفها؟ ثمة سبع عشرة لوحة من أعمالي عليها إشارة حمراء تقو إنها بيعت!
أجبته بعناد جميل:
- ألا يشفع لي عندك أنني عرفتها من بين 17 لوحة؟!
رد مستسلماً وقد حشرته في المربع الأخير:
- إن دليتني عليها حقاً.. فهي لك!
ثم أضاف بعد صمت, كمن يريد أن يكون كبيراً في هزيمته:
- أقصد.. هي لك بدون مقابل!
- بل مقابل كل ما بقي لي من مال تلك الجائزة.
ثم واصلت في محاولة لإقناعه بمكاسبه:
- صفقة جميلة. أملك مالاً أريد أن أتخلص منه في عمل خيري.. وأنت تملك لوحة لا تدري لمن تتركها. بهذا تصنع سعادتنا نحن الثلاثة, أنا , وأنت , والناس الذين سيذهب ريع هذه اللوحة لهم.
ثم أضفت, وفكرة مجنونة تعبر ذهني:
- وربما تصنع سعادة شخص رابع.
- من؟
- المرأة التي قد أهديها إياها!
غير أني استدركت خشية أن أجعله يعدل عن رأيه:
- لا تخش على لوحتك.. إنها سيدة الجسور.. ككل نساء قسنطينة!
لعلي قلت له كل شيء دفعة واحدة, أو قلت أكثر مما يجب أن أقول في جلسة واحدة.
بدا لي للحظة حزيناً, حزن محارب تخلت عنه زوجته وهو في الجبهة.. ويعرف ذلك.
لكنه كان في مشهده ذاك, ذكياً كما ينبغي, متغابياً كما يليق, متهكماً حتى لكأن حزنه يدافع عن نفسه بالسخرية.
قال بصوت خافت الإضاءة, كفنار بحري في ليل ممطر:
- يا مغبون.. لا تحب امرأة تحب الجسور. الجسر لا يصلح لتعمر بمحاذاته بيتاً. هو لا يصلح سقفاً لمأواك. أن تبني بيتاً على طرف جسر. كأن ترفع الكلفة بينك وبين الهاوية!
كان مريضاً بحكمته المتهكمة حتى لكأنه يعاني منها.ذكياً ذكاء المرض الأخير الذي يمنحك فرصة التفكير. يجعلك تتنبه لما لم تكن تراه من قبل.
ألأن المرض يعيد الإنسان طفلاً. يستعيد المرض حدس الأطفال في معرفة من يحبهم ومن يكذب عليهم؟
كنت واثقاً أنه أحبني منذ اللقاء الأول. لكن ماذا كان يعرف عني هذا الرجل المحتفي بي كقريب أو صديق كما لو كان ينتظر مجيئي, هو الذي لم أصادف أحداً يعوده؟ حتماً, هو لم يصدق أعذاري الصحفية في طلب مقابلة. لكن, كان يتحدث إلي كما لو كان يحادث صحفياً حيناً.. وصديقاً أحياناً أخرى, بدون أن يغفل أثناء ذلك الغريم الذي كان يتوجسه في.
سألته شبه معتذر:
- إن كان يزعجك أن أهدي هذه اللوحة لشخص آخر سأحتفظ بها لنفسي.
ضحك متهكماً, وقال ذلك الكلام الذي لم أختبر صدقه إلا لاحقاً:
- لا تهتم.. حتى أن تكون اللوحة لك, فلست من يقرر قدرها. أنت لست سوى يد في عمر أشياء ستتناوب عليها أيد كثيرة. كل شيء يغير يد صاحبه, وأحياناً يستبدلها بيد عدوه. امرأتك, وظيفتك, بيتك, مقتنياتك, كل شيء لك سينتقل إلى غيرك شئت أم أبيت. المهم ألا تدري بذلك. ولذا عليك باكراً أن تتمرن على تقبل الخيانة.
صمت قليلاً ثم واصل وهو يحرك كتفه الأيسر مشيراً إلى ذراعه المبتورة:
- عندما تهجرك أعضاؤك, وتتخلى عنك وهي من لحمك ودمك, عليك ألا تعجب أن يتخلى عنك حبيب أو قريب أو وطن.. فما بالك بلوحة؟
شعرت كأنما الحزن رفعني إلى عمره, أنني شخت في لحظات, وأفلست وأنا أراه يستعرض خساراته.
قلت:
- أحسدك.. لم أعرف قبلك رجلاً على هذا القدر من الحكمة.
رد بتهكمه الموجع:
- سأجيبك بقول أحبه في الكتاب المقدس : " مادمت سأنتهي إلى مصير الجاهل.. فلماذا كنت حكيماً؟"
كنت على وشك مغادرته حين ناداني لأول مرة:
- خالد...
ثم واصل ممازحاً كمن لا يعنيه جوابك بقدر ما يعنيه ألا تستخف بذكائه:
- أما زال اسمك خالد؟
- أحياناً..
- وأحياناً أخرى..؟
قلت متهرباً من سؤاله:
- في معظم الأحيان اسمي خالد بن طوبال.. الاسم الذي يشبهني أكثر.. في الواقع أخذته من رواية.
وقبل أن أواصل, قاطعني قائلاً كما ليوفر علي جهد البحث عن ذريعة:
- أتدري لماذا انتحر خالد بن طوبال في رواية مالك حداد " رصيف الأزهار لم يعد يجيب؟" قلت معتذراً:
- في الواقع, قرأت هذه الرواية منذ زمن بعيد ونسيت أحداثها.
قال:
- رواية صغيرة من مائة صفحة. لا يحدث فيها شيء تقريباً, عدا انتحار بطلها في آخر الرواية, عندما علم أثناء وجوده في فرنسا من الجرائد, أن وريدة زوجته التي يعشقها وقاوم من أجلها كل إغراءات مونيك, مستعجلاً العودة إلى قسنطينة ليراها, هربت أثناء غيابه مع أحد المظليين الفرنسيين, وانفضح أمرها عندما ماتت معه في حادث. ولذا يلقي خالد بنفسه من القطار. شخص غيره كان فكر في طريقة أخرى للموت, لكن القسنطيني الذي أمه صخرة وأبوه جسر, يولد بعاهة روحية, حاملاً بذرة الانتحار في جيناته, مسكوناً بشهوة القفز نحو العدم, وتلك الكآبة الهائلة التي تغريك بالاستسلام للهاوية.
ليست الخيانة هي التي كانت سبباً في موت خالد بن طوبال, إنما علمه بها. كان عليه ألا يدري, غير أن خالد بن طوبال في كل الروايات يدري.. لأن وريدة التي , حسب تعبير مارغريت دوراس في إحدى رواياتها." عقدت قرانها على الريح" تخونه في كل رواية مع مظلي جديد. وفي كل الروايات يموت خالد مرتين: مرة بسبب جيناته القسنطينية.. ومرة بذكائه!
ماذا كان علي أن أفهم من كلام رجل ينصب لك بين الكلمات فخاخ الصمت, وبين صمت وصمت يهديك مفك تأويل الألغام.
سألني فجأة:
- هل أنت قسنطيني؟
قلت كمن يعترف بخطيئة:
- أجل..
- ما دام ليس في إمكانك تغيير جيناتك.. لا تحب امرأة تحب الجسور. كل حب قسنطيني يقف على حافة المنحدرات العاطفية.
يا لهذا الرجل.. فقد غفلة الصحة, لكنه اكتسب فطنة المرض. وعبثاً حشرت حواسي لألتقط ما يمكن أن يشي بما جئته متقصياً إياه.
كرجال جيله, كان به ورع عاطفي, هو لن يكاشفني, ولا أنا سأسأله عنها.
ربما يكون تعرف علي بذكاء القلب وحدسه. لكننا منذ البدء جعلنا التغابي بيننا ميثاق ذكاء, أو ميثاق كبرياء.
كنت سعيداً بما لا أعرفه عنه, سعادتي بما لن يعرفه عني.
كنا هناك, لأن كلانا خالد بن طوبال, وهذا الأمر, الوحيد الذي كان كلانا يعرفه.
|