
05-27-2010, 12:37 AM
|
 |
|
|
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: الأمآكن الي مريت إنت بيهآ .,,
المشاركات: 1,259
|
|
الفصل الثامن
على يمين الذكريات, قبالة الضفة اليسرى لنهر السين, كانت كراسٍ تنتظر لقاء المصادفات, وطاولات تحتسي الضجر المسائي, وكان ثمة أنا, خلف واجهة زجاجية لمقهى في زاوية مهيأة لشخصين. أنتظرها على مرمى بيت خارج من كتاب.
وهي ستأتي. لها هنا عاشق على أحر من موقد, ولي رغبات بشيء من الهيل, وقهوة من غير سكر, يأتي بها نادل الحزن المهندم.
كنت شارداً بها خلف زجاج الترقب حين فاجأني برق طلّتها. وقفت أسلّم عليها واضعاً قبلتين على خديها دون تفكير. فباريس تجيز لك سرقة القبل.
سحبت كرسياً وجلست قبالتي. قالت وهي تستعيد أنفاسها:
- ضعت في متاهات المترو.. فقدت عادة التنقل في ذلك العالم السفلي المزدحم بالبشر.. ما الذي أوصلك إلى هنا؟ ما سمعت بهذه المحطة من قبل!
طبعاً لم أصدقها. كنت أصدّق فيها بياض الكذب. وفهمت كم كان يلزمها من حقائب لتهريب كذبة واحدة.
- آسف.. ظننتك تحسنين التنقل بالميترو.
ردت وهي تضع حقيبة يدها على الكرسي المجاور:
- في لحظة ما, خفت أن تكون أخطأت في إرشادي إلى العنوان.
أجبت مبتسماً:
- طبعاً لم أخطئ.. وإن كنت أحب العودة معك إلى جادة الخطأ!
راحت تتأملني لبرهة, كما لتحاول فك إشارة كنت أبعثها إليها بين الكلمات, ثم قالت بعصبية أنثوية:
- ما زلت تتعمد أن تقول لي أشياء لا تفهم!
قلت ضاحكاً:
- أبداً.. كنت أعني أنني عشت عمراً على خطأ.. صوابي الوحيد أنني تعثرت بك.
اكتفيت بأن أوصل إليها نصف ما أقصد. النصف الآخر ستكتشفه لاحقاً.
قالت متوسلة:
- أرجوك.. لا ترهقني بجهد إضافي.. لا قوة لي على البحث بين الكلمات. يكفيني ما قمت به من جهد حتى لا تغير أمّا أو ناصر رأيهما ويصطحباني معهما إلى ذلك العشاء.
عندما حضر النادل ليسألها ماذا تريد, اعتذرت وقالت إنها تفضّل أن تغادر المقهى.
أكانت على عجل كي نختلي؟ أم كانت على قلق متوجّسة شيئاً قد أفاجئها به؟
دفعت ثمن قهوتي وغادرنا المقهى.
بدت لي مندهشة, متباطئة الخطى وهي تراني أسلك طريقاً كنها تعرفه.
سألتها إن كان ثمة ما يزعجها:
- نسيت كيف أسير بأمان في شارع ليس إلاّ. اعتدت على مدن شكاكة, تنتظرك خارج بيتك بعيون فضولية, وأخرى متربصة, وأخرى عدائية. توقعك في قبضة الخوف.
كنا نسلك منعطف الشارع المؤدي إلى البيت عندما فاجأنا المطر. سألتها إن كانت تحمل مظلة:
- لا.. نسيتها لفرط عجلتي.
- وأنا نسيتها لفرط فرحتي.. لكن لا يهم نحن لسنا بعيدين عن البيت.
واصلت التحرش بها وأنا أراها تسبقني بخطوات:
- هل أنت على عجل؟
ردت بشيء من العصبية وهي تغطي شعرها بحقيبة يدها:
- أنا على بلل..
اكتفيت بإسراع الخطى نحو تلك البناية وأنا أفكر في فصاحتها المواربة.
وقفت جواري باندهاش صامت وهي تراني أضغط على الأرقام السرية التي تفتح باب البناية. وهذه المرة أيضاً لم أسألها ما الذي يدهشها, تغابيت وهي تسألني:
- أتسكن هنا؟
أجبت مازحاً:
- دوماً كنت أقيم في شوارع جانبية لجادة حبك.
أحسست أن المفاجأة سمرتها عند الباب. سحبتها من يدها قائلاً:
- تعالي.. لا تبقي هكذا على ناصية الأسئلة.
لكنها سألتني بنبرة من كان يمشي نائماً.. ثم استفاق:
- إلى أين نحن ذاهبان؟
- تدرين ما يقول مقطع من " بحيرة البجع", " تعال على رؤوس الأصابع, واضعاً يداً على فمك كي لا تبوح بسر المكان الذي أقودك إليه, كي تستأثر وحدك بالجواهر المرصعة على اسمك".
ردت متذمرة:
- أهو وقت بحيرة البجع؟ أطرح عليك سؤالاً فتجيبني شعراً!
أجبتها ونحن ندخل المصعد:
- حضورك يورطني دائماً في الأشياء الجميلة.
عندما انغلق المصعد علينا, لم تكن مشغولة بلحظة خلوتنا الأولى. كان نظرها يتسمر على لوحة الأزرار التي تحمل أرقام الطوابق.
ربما بدأت تتأكد لحظتها نحو أي طابق كنت آخذها. ولكنها واصلت النظر إلى اللوحة, كأنها تراهن على احتمال وجود خطإٍ في اللحظة الأخيرة.
قلت كما دون قصد, متمادياً في التغابي المزعج وأنا أضغط على زر المفاجأة:
- الحب له دائماً حضور متعالٍ, إنه يقيم في الدور السابع.
لم تعلق بكلمة, ولا أنا نظرت في عينيها بحثاً عن آثار صدمة ارتطامها بالحقيقة.
عندما فتحت الباب, شعرت وأنا أنير البيت أن نظرتها تتفقد المكان كما لتطمئن على سلامة الأشياء.
كانت اللعبة مشابهة للوحة يتنكر رسامها لملهمه, وعندما تكون انتبهت إلى تصديقه, تقودك خطى القدر يوماً إلى مكمن سره, ولا يمكنك آنذاك مقاومة الرغبة في وضعه أمام كذبته. وهذا البيت الخارج من كتابها, والمطابق لكل تفاصيل وصفها له, يليق بمواجهة كهذه. كنت أحب تلك اللحظة التي أفحم فيها امرأة بحجة لا تتوقعها, ثم أتفرج على عريها أمام الحقيقة.
قررت أن أمضي في لعبة التغابي إلى أقصاها. ما دام لم يبد عليها أي رد فعل صارخ.
- هل أعجبك البيت؟
ردت وهي تختار كلماتها بعناية:
- فيه دفء جميل.
أضفت وأنا أتنبه لثيابها المبللة:
- كان عليك أن تحملي مظلة.. أو أن ترتدي معطف فرو ليوم كهذا.
- تعمدت ارتداء هذا الجاكيت خوف أن يتسبب لي معطف فاخر بمشاكل في الميترو. يقال إن الاعتداءات وعمليات النشل كثرت هذه الأيام.
قلت وأنا أضع أول قبلة على شفتيها:
- ومن قال إنك هنا في مأمن؟ لا أكثر سطواً من عاشق انتظر سنتين!
بقبلة ابتلعت زينة شفتيها, تاركا؟ً لها ابتلاع أكاذيبها, وهي تقول:
- اشتقتك.. كم انتظرت هذا اليوم.
في الوقع, كانت لا تزال تحت وقع إرباك المكان, ولا تجرؤ على سؤالي كيف وصلت إلى هذا البيت, ولا ماذا أفعل هنا.
فرحت أتأمل ملامحها بعد مباغتة القبلة الأولى التي يتغير بعدها وجه الآخر, لأنه لا يعود كما كان من قبل.
قلت متحاشياً إرباك الموقف:
- أنت تصغرين مع كل قبلة.. بعض قُبَلٍ أخرى وتصبحين على مشارف العشرين.
ردت وهي تتجه نحو الصالون:
- ومن أدراك أنني أحب ذلك العمر.. اليوم لي عمر شفتيك.
قلت بسخرية لا تخلو من تهكم مر:
- وغداً؟
أجابت وقد باغتها السؤال:
- غداً؟ لا أدري.. ليست الآخرة من هواجسي
|