عرض مشاركة واحدة
  #30  
قديم 05-27-2010, 12:50 AM
الصورة الرمزية مُنتهى آلرقـه
مُنتهى آلرقـه غير متواجد حالياً
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: الأمآكن الي مريت إنت بيهآ .,,
المشاركات: 1,259
مُنتهى آلرقـه is on a distinguished road
افتراضي

قلت مازحاً:

- سأعطيك إذن من القبل ما يجعلك تبلغين سن الجحيم بسرعة.



كنت أتعمد ممازحتها تخفيفاً لحرج اللحظات الأولى. في الواقع ما كانت لي رغبة سوى تأملها.

جلست على الأريكة قبالة الموقد, أنظر إليها, وهي تتنقل في الصالون متأملة تمثال فينوس واللوحات المعلقة على الجدران, دون أن تعلِّق بشيء.

لم أقاطع خلوتها الأولى بالذاكرة. كنت سعيدا بتأملها.

كانت مبللة كقطة. شيء منها كان يذكرني بـ " أولغا" جارتي البولونية, وهي تنشف شعرها في روب حمامها الأبيض. خشيت عليها أن تمرض.

- بإمكانك أن تجففي شعرك في الحمام.

ابتسمت ابتسامة غائبة:

وقبل أن تتوجه نحو الحمام تذكرت شيئاً فأردفت قائلاً:

- إن شئت أن تغيري ثيابك.. لدي فستان لك, بإمكانك ارتداؤه.

ردت بلؤم نسائي:

- أهو فستان لصاحبة البيت؟

قد تكون رأت صوراً لفرانسواز وأخرى لأمها على طاولة ركن في الصالون.

أجبت متجاهلاً استفزازها:

- لا .. بل اشتريته لك.

تركتها واقفة وسط الصالون, وعدت بعد حين حاملاً ذلك الفستان الأسود في كيسه الفاخر. قلت وأنا أناولها إياه:

- أتمنى أن يعجبك.. وأن يكون مقاسك.

قالت وهي تأخذه مندهشة:

- متى اشتريته؟

أجبت مازحاً:

- لن تصدقي لو قلت لك إنني اشتريته منذ أكثر من شهرين, حتى قبل أن أتوقع لقاءك.

راحت تفرده بإعجاب واضح:

- جميل .. جميل حقاً.. كيف فكرت أن تشتريه لي, لقد خربت حتماً ميزانيتك.

- لا تهتمي, إنه استثمار عاطفي جيد.

- لو لم أحضر إلى باريس ولا التقينا ماذا كنت ستفعل به يا مهبول.. أكنت ستهديه لزوجتك؟

- قطعاً لا, اشتريته لأرشو به القدر إنه ثوب الحب.. وسعيد أن تكوني أنت من ترتديه لا أخرى.

ردت بغيرة نسائية واضحة:

- وهل ثمة أخرى؟

- لا.. إنما أنت من علمتني أننا نفصِّل كل حب من قماش حب آخر.

لم تعلّق. ذهبت صوب المرآة ووضعته على جسدها لترى إن كان يناسبها.

طمأنتها قائلاً:

- الأسود يليق بك.

قالت وهي تهم بإعادته إلى الكيس:

- هو أجمل من أن أرتديه في البيت.. إنه فستان سهرة.

- ونحن في سهرة.. وفي باريس. أين سأراك فيه إن لم يكن هنا؟

بدت مقتنعة.

اقترحت عليها أن تذهب إلى الغرفة المجاورة وترتديه.

تأملت للحظة وجهي المنعكس أمامها في المرآة. ثم بدون أن تقول شيئاً, أخذته ومضت صوب الغرفة التي كان واضحاً أنها تعرف الطريق إليها!

أكنت أريد أن أختبر معرفتها بالبيت.. أم أختبر صبري عليها, وأقاصص نفسي بانتظارها وهي تتعرى لذاكرتها في تلك الغرفة.

كان بإمكاني عن لهفة, أن ألحق بها, أو أن أقترح عن عادة ارتداءه أمامي في الصالون. لكنني لم أفعل, إنقاذاً لجمالية اللحظة.

رغم استعجال الجسد وجوعه, كنت أسعد بمتعة تأجيل متعتي, كفاكهة تدري أنها لك, ولكنك تؤجل قضمها.

حاولت أن أستعين على انتظارها بالبحث عن شريط يليق بالمناسبة. كانت تلك الأغنية ما زالت داخل جهاز الكاسيت.

اكتفيت بإعادتها إلى البداية.. والضغط على الزر.

باسم الله نبدى كلامي.........قسمطينة هي غرامي

نتفكرك في منامي......... إنتي والوالدين الله



جلست رفقة قسنطينة أنتظرها, أو هكذا ظننت, حتى أطلت كبجعة سوداء.. كأنها في كل ما ترتديه ما ارتدت سوى ملاءتها. وإذا بها قسنطينة.



وقفت قبالتي, وكنت أتأمل غرابة فتنتها التي لا منطق لها.

لم تكن الأجمل. قطعاً ما كانت الأجمل, ولكنها كانت الأشهى. كانت الأبهى. وهذا أمر لا تفسير له, كغرابة صوتها الذي يحدث اضطراباً كونياً بكلمة.

سألتني بلهجة قسنطينية, وهي تدور في ذلك الثوب نصف استدارة على إيقاع الموسيقى:

- تشتيه؟

" هل أحبه"؟ يا للسؤال! أجبتها وقد استيقظ فيّ كل ذلك الشوق:

- نشتيك إنتي!

دوماً أحببت الطريقة التي تتحرك بها, طريقتها في الالتفات, في التوقف, في الانحناء, في انسياب الشال على شعرها, في رفع طرف ثوبها بيد واحدة وكأنها تمسك بتلابيب سرها. طريقتها في الذهاب.. طريقتها في الإياب.



في ذلك الزمن الذي كانت تزورني فيه متنكرة في عباءة أمها, خوفاً من أعين الفضوليين ونوايا الإرهابيين المتربصين بالنساء, أذكر قولي لها أنني أحبها في تلك العباية السوداء أجابت يومها: " عليك أن تحب الثوب الذي ترتديه ليحبك, وإلا سيبادلك اللامبالاة والنفور, فتبدو فيه قبيحاً. بعض الناس لا يقيمون علاقة حب مع ما يرتدون, ولذا هم يبدون غير جميلين حتى في أناقتهم, والبعض تراهم على بساطة زيهم متألقين, لأنهم يرتدون بذلة يحبونها ولا يملكون سواها".

أتراها أحبت هذا الثوب حتى لتبدو فاتنة فيه إلى هذا الحد؟

أم هي أحبت فتنة هذا الموقف وغرابة لقائنا معاً في بيت يعيدها عشر سنوات إلى متاهتها العاطفية الأولى.



كانت كلمات الأغنية امتداداً لخساراتنا, ممزوجة بحسرات الاشتياق إلى قسنطينة. وكانت الموسيقى بإيقاع دفوفها تبث في الجو ذبذبات الخوف من رغبات تولّد مشاعر عنيفة, تبدو معها الرغبة في الرقص عبوراً إلى حزن آخر.

لأن وجودك في " محمية عاطفية" خارج خارطة الخوف العربي يمنحك كل الصلاحيات في اختبار جنونك.. قلت لها::

- حياة.. اشطحي لي.

فاجأها طلبي, وفاجأني حياؤها. ردت بخجل نساء قسنطينة في زمن مضى:

- ما نقدرش.. عمري ما شطحت قدام راجل.

أجبتها بما يضاهي حياء أنوثتها من رجولة:

- أنا مانيش راجل.. أنا راجلك.. وهاذا الزين إذا موش ليَّ لِمنُو؟

تراني لفظت كلمة السر التي انتظرها جسدها طويلاً. فلا أظن أحداً قبلي سألها " لمن جمالك.. إن لم يكن لي أنا"؟

بحشمة قسنطينة عندما ترقص لأول مرة في حضرة رجل, راح جسدها يتهادى. لم تكن تتلوَّى , لم تكن تتمايل, ولا كان في حركتها من غنج. كانت إثارتها في إغرائها الموارب, في تلك الأنوثة التي تحت صخب الموسلين ترقص وكأنها تبكي. على أغنية محملة بذلك الكم من الشجن.

كان في الجو براعم جنون لشهوات مؤجلة أزهرت أخيراً خارج بساتين الخوف, لكن في بيت متورط في حزننا أكثر من أن نفرح فيه.



بدا لي كأنما لاستحالة فرحنا, كنا نمارس الحب رقصاً, بنشوة الحزن المتعالي.

وقبلها لم أكن خبرت الرقص الذي يضرم الحزن. صامتاً كنت, جالساً قبالتها, طرباً لفرط حزني, حزيناً لفرط طربي, منتشياً بها لفرط جوعي إليها. دمائي تصهل تجاهها دوماً, لتنتهي كرماً يعتصر تحت وقع قدميها.

أحببت فصاحة قدميها المخضبتين بدم الرجال. في كل رغبة شيء من العنف المستتر.

ألهذا خفت كعبها, أم لأنه لا يليق بقسنطينة الرقص بكعب عال؟

قلت: " اخلعي نعلك يا سيدتي.. في الرقص كما في العبادة لا نحتاج إلى حذاء". فقد تنبهت إلى وقوف فينوس منتصبة تواصل انتعال ابتسامتها الأبدية.



أن تكون آلهة لم يعفها من الذهاب حافية إلى لويس الثامن عشر. فيوم جيء بها إليه, ليستقبلها رسمياً بما يليق بمقام آلهة للجمال, وجد من بين متملقيه من أوصله الاجتهاد إلى المطالبة بأن تتواضع وتأتيه حافية لتؤدي له طقوس الطاعة, كما في الأساطير القديمة.

ولأن قدمها اليسرى كانت مغطاة بقطعة قماش متدلية من وسط جسدها, يقال إن خبراء الترميم في متحف اللوفر قاموا بتبديل قدمها اليمنى بقدم بدون خف.

من يومها تزداد " فينوس" تهكماً. ما استطاعوا أن يجعلوا تمثالها ينحني ولا يديها المبتورتين تصفقان لحاكم أو ملك.

وهي تود لو أنها رقصت الآن كأنثى على هذه الموسيقى. غير أن الرقص القسنطيني لا يرقص بفوطة تلف حول ردفين لجسد نصف عار, لهيبة نسائه في حضورهن الخرافي, يكاد رقص القسنطينيات يضاهي طقوس العبادة.

إنه يا إلهة الجمال شيء أجمل من أن يتعرى. أروع من أن يوصف.



احزني قليلاً إذن يا سيدتي الحجرية, " نحن لا نستطيع الرقص مع إنسان سعيد" والبسي ثوباً من المخمل المطرز بخيوط الذهب, أثقل من أن ترتديه وحدك, أجمل من ألا يراك فيه أحد. ضعي حول خصرك حزاماً قضت أمك عمراً في جمع صكوكه الذهبية, كي تلبسيه ليلة عرسك. مرري في قدميك المخضبتين بالحناء خلخالاً تسمع رنته حين تمشين, ولا يرى منه سوى واحد حين تجلسين, وتعالي على هودج الشهوات المتهادي لتتعلمي الرقص القسنطيني.



انحنت حياة تخلع حذاءها, وتواصل الرقص حافية الشهوات, على إيقاع خلخال أوهامي.

لفرط انخطافي بها, لم أنتبه لحظتها لإمكان إزعاج الجيران. لكن عندما راح الهاتف يرن بعد ذلك بإلحاح في غرفة النوم, توقعت أن يكون أحدهم اتصل احتجاجاً على صوت الموسيقى.

عملاً بتعليمات فرانسواز, فضلت ألا أجيب, مكتفياً بالنظر إلى الساعة.

كانت التاسعة والربع بعد الشجن. أظننا تجاوزنا الوقت الحضاري المباح لضجيج السهر.

كان الشريط على مشارف نهايته. توجهت نحو المسجل أخفِّض صوت الموسيقى.

سألتني وهي تجلس قبالتي على الأريكة:

- ألا ترد على الهاتف؟

- لا.

قالت بمكر الأنوثة:

- ربما أحد يصر على محادثتك.. الإلحاح الهاتفي صفة أنثوية.

قلت متجاهلاً تلميحها:

- المحب كالمتعبد.. لا يقطع صلاته ليرد على الهاتف!

- ولا يقطع عبادته أيضاً لينظر إلى الساعة.. إلا إذا كان مثلاً ينتظر هاتفاً.

ضحكت لمنطق غيرتها. أجبتها وأنا أفك الساعة من معصمي, وأضعها على طاولة قريبة:

- بل لا هاجس للمتعبد إلا الساعة, لأنه كالعاشق يخاف أن تفاجئه ساعته. هاجس الموت يواجهنا أمام كل حب, لأن الزمن هاجس عشقي, برغم أن العشاق, كما الموتى, لا يحتاجون إلى ساعة لكونهم بدخولهم إلى الحب يخرجون من الزمن المتعارف عليه!

واصلت مازحاً:

- خلعت ساعتي.. أتحداك ألا تنظري بعد الآن إلى ساعتك!

ردت ضاحكة:

- عليك اللعنة.. تهزمني دائماً بدون جهد.

صححتها وأنا أضمها إلي:

- بل بجهد غبائك العاطفي!

رحت أقبلها طويلاً. قبلة تأخرت كثيراً حتى لكأن عليها أن تغطي نفقات عامين من الانتظار. فوحدها اقبل بإمكانها أن تعيد إليك عمراً أفلت منك, برغم حملك أثناءه.. ساعة في معصمك!

شعرت برغبة في أن أسألها: هل قبَّلها أحد قبلي على هذه الأريكة نفسها؟

غير أنني كنت أعرف الجواب, فاستبدلته بآخر أكثر إلحاحاً. قلت وأنا أعابث شعرها:

- حياة.. هل قبَّلك رجل بعدي؟؟

فاجأها السؤال. ردت عليه بضحكة ماكرة, ضحكة ماطرة تجاهلت رذاذها. قلت موضحاً:

- لا أريد نصاً روائياً.. لا يعنيني أن أعرف من يكون ولا كيف أو متى حدث هذا.. أريد أن أعرف فقط هل حدث؟
رد مع اقتباس