عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 05-27-2010, 12:51 AM
الصورة الرمزية مُنتهى آلرقـه
مُنتهى آلرقـه غير متواجد حالياً
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: الأمآكن الي مريت إنت بيهآ .,,
المشاركات: 1,259
مُنتهى آلرقـه is on a distinguished road
افتراضي

هي عادة لا تصدق إلا عندما يكون في صدقها إيلامك, ولمرة تمنيت لو أنها كذبت.

كنت أنتظر منها جواباً لكنها لم تملك سوى كلمات كضمادات لاصقة, توضع على عجل لوقف نزيف.

قالت إذ وجدت في سؤال آخر براءة لذمتها:

- قلت مرة إن " الذكاء هو تقاسم الأسئلة" دعني أتذاكى وأسألك بدوري, ما علاقتك بهذه المرأة التي تغطي صورها كل مكان في هذا البيت الذي تستقبلني فيه؟

ضحكت لسؤالها. فالذكاء ما كان بالنسبة إليها تقاسم الأسئلة بل قلبها. وأنا جئت بها إلى هنا كي أرغمها على الاعتراف بحقيقة وجود خالد.. ها هي تقلب الأدوار, وتبدأ باستنطاقي عن فرانسواز.



قررت أن أتراشق معها بجمر الغيرة, خاصة أ، في الأمر جانباً طريفاً آخر. فهي لا تتوقع حتى الآن أن أكون التقيت بخالد, أو أنني أعرف شيئاً عنه, لاعتقادها أنه ترك هذا البيت منذ سنوات. لكنها حتماً تعرفت على فرانسواز من صورها المرسومة على اللوحات. ولا تفهم كيف هذه المرأة استطاعت أن تسرق منها الرجلين الأهم في حياتها.

- صديقة أقيم عندها منذ أشهر.

ثم واصلت مستدركاً بلؤم:

- تلقفتني " الحفر النسائية" بعدك. لكن في كل امرأة مررت بها تعثرت بك!

ردت بضحكة تخفي لهيب الغيرة:

- لا داع لسؤالك إذن ماذا فعلت في غيبتي. لكثرة ما تعثرت بي في كل حفرة, أتوقع أن تكون قضيت الوقت أرضاً, هل استمتعت بذلك؟

كانت أنثى لا تختلف عن الأجهزة البوليسية, تحتاج إلى تقارير ترفعها إليها في كل لقاء عن كل أنثى مارست الحب معها قبلها. وككل المخابرات كانت تجد متعتها في التدقيق بالتفاصيل.

تمادياً في إيلامها, تجاهلت فضولها. فهي تدري أن قصة لا تبوح بتفاصيلها هي قصة عشقية, ووحدها المغامرات العابرة تغذِّي آذان الأسرّة التي لا ذاكرة لها.

ربما لهذا هي لم تبح يوماً بحبها لخالد ولا لزياد. فهل كان حبها أكبر وأجمل من أن يحكى خارج كتاب؟

أثناء تأملي ولعها بي, كلما ازدادت يقيناً بخياناتي لها, وقعت على مفارقة عجيبة, وأنا اكتشف أن وفاء رجل لامرأة واحدة, يجعله الأشهى في عيون بقية النساء اللائي يصبح هدفهن الإيقاع به, بينما خيانته إياها تجعله شهياً لديها!

تذكرت خالد الذي قد يكون مثلي خسرها في الماضي لفرط إخلاصه لها, ثم أصبح جديراً بغيرتها مذ تلقفته فرانسواز, تماماً كما أصبح فناناً جديراً بالاهتمام في الجزائر, مذ غادرها, لتتلقفه هنا صالات العرض الباريسية!

وهكذا الذين يقولون إننا نحتاج إلى الأكاذيب الصغيرة لإنقاذ الحقيقة.. ربما عليهم أن يضيفوا حاجتنا إلى شيء من الخيانة, لإنقاذ الوفاء, سواء لوطن.. أو لامرأة.



حاولت أن أستدرجها للحديث عن خالد, مستفيداً من جلوسنا عند العشاء متقابلين للوحة عليها جسر:

- دوماً كانت الجسور ثالثنا.. أتحبين هذه اللوحة؟

أجابت وقد فاجأها سؤالي:

- ما عدت أحب الجسور. مذ اغتيل سائقي " عمي أحمد" بسببي ونحن على الجسر, كرهت الجسور, خاصة أن لي جدَّا انتحر بإلقاء نفسه من جسر سيدي راشد, وهذه الحادثة التي لم تكن تعنيني أصبحت تحضرني بين الحين والآخر. البارحة مثلاً فكرت وأنا أعبر جوار برج إيفيل أننا لم نسمع بأحد انتحر بإلقاء نفسه من برج, فالمنتحر لا يبحث عن المكان الأعلى للانتحار بقدر ما يعنيه زخم الحياة. هو يختار الجسر لأنه يريد أن يشهدنا على موته, ينتهز فرصة ذلك الزخم الحياتي لكي يقضي على الحياة, عساها تنتحر بانتحاره, لأنه برغم كل شيء لا يصدق أنها ستستمر بعده.

كانت تبدو أجمل, عندما تتحدث في أشياء جادة. رحت أستدرجها لحوار ظننته سيكون كذلك:

- إن كنت تكرهين الجسور , لماذا تشغل كل رواياتك؟ اشرحي لي هذا اللغز الذي لم أفهمه!

عادت إلى مراوغتها الساخرة وردت:

- ثمة مقولة جميلة لبروست :" أن تشرح تفاصيل رواية كأن تنسى السعر على هدية". مثله لا أملك شروحاً لأي شيء كتبته.

علَّقت مازحاً:

- طبعاً.. أفهم تماماً أن تكوني امرأة ملتزمة بـ " إيتيكيت" الهدية!

ثم واصلت- وبالمناسبة, سؤالي كان بسبب لوحة زيان اشتريتها تمثل جسراً, وكنت أنوي أن أهديك إياها.

قاطعتني:

- أرجوك لا تفعل. قد لا أعلقها أبداً في بيتي.

أجبتها وقد وجدتني أتحدث مثل فرانسواز:

- كنت سأهديك إياها لتعلِّقيها على قلبك.. لا على جدران بيتك.

قالت:

- ما عاد في حوائط قلبي مكان لأعلِّق عليه شيئاً.

كانت محاولتي الأخيرة لاستدراجها للحديث عنه. انتابتني بعدها حالة كآبة.

أكنت حقاً أحبها؟ أم أحب وجعي في حضرتها؟ امرأة لا أريدها ولا أريد أن أشفى منها, كان في طفرة ألمي بها شيء مطهر يرفعني إلى قامة الأنبياء.

قالت وقد لاحظت حزني:

- لا تحزن هكذا.. يكفيني هذا الفستان هدية منك. احتفظ أنت باللوحة ما دامت تعجبك. اعذرني, أصبحت أتشاءم من الجسور.

أشعلت سيجارة وقلت وأنا أتأملها وهي تقطع شريحة اللحمة:

- أما زلت تبحثين عن آباء لرواياتك؟

ردت ضاحكة:

- ما زلت..

- روايتك التالية سأكون أباها .. وأمها.. وجد أمها.. وستكتبينها " بلا أمّك"!

كان لنا قاموس من الغزل الجزائري لا غنى لنا فيه عن المسبّات. ضحكت وهي تستعيد مفردات شراستنا العشقية وقالت وهي تقّبلني:

- نشتيك يلعن بوزينك.. ويلعن بو الرواية متاعك..

كنت أفكر لحظتها أن بعد كل متعة كان الحب يحصي عدد الأطفال الذين لم أستولدها إياهم. ولكن بعد كل حرمان جسدي كان الأدب يفرك كفّيه مستبشراً بعمل روائي. ولا بد لهذه المرأة المقصَّرة في الكتابة على الانكتاب, أن تنجب بحرمانها اليوم مني نصها الأجمل. قررت ألا يخرج قلمها سالماً من هذا البيت, بيته.

بعد العشاء عندما وضعت على الطاولة سلة الفواكه وصحن الفراولة التي كنت أحضرتها لعلمي بحبها لها, قلت مازحاً:

- احذري الفراولة.. برغم كونها عزلاء فقد تشعل حرباً عالمية. قرأت أن إحدى الرسائل المشفرة التي كانت توجهها إذاعة المقاومة الفرنسية التي كان يشرف عليها ديغول في لندن أثناء الاحتلال الألماني, كانت تحمل مساء 5 حزيران 1944 هذه الرسالة المشفرة:" أرسين يحب المربى بالفراولة" وكان ذلك إعلاناً بإنزال الحلفاء جيوشهم على الشواطئ الفرنسية!

قالت متعجبة:

- حقاً..؟

قلت مازحاً:

- لا تخافي.. خطورتها ليست في قوتها.. إنما في حمرة غوايتها. وربما لهذا يصعب على الناظر إليها مقاومتها. على غير بقية الفواكه هي غير مكترثة بأن تحمي نفسها بقشرة, أو تلتحف بغلاف. إنها فاكهة سافرة ولذا هي سريعة العطب.

كانت عيناها تتبعان يدي وهي تمرغ حبة الفراولة في صحن السكر.

قلت وأنا ألقمها إياها بذلك البطء المتعمد:

- لا أدري من ألصق للتفاح شبهة الخطيئة. الخطيئة لا تقضم, بل تلقم, والمتعة ليست سوى في كمية المواربة بين الفعلين.

في الحبة الثانية, كنت توقفت عن الكلام, كي أعلمها فضائل الصمت في حضرة الفراولة.

تركت لثغرها أمر مواصلة التفكير في متعة لا يمكن لها أن تدوم, حتى لا نجد أنفسنا يوماً مثل زوربا نتقيأها لنشفى منها. فالإفراط في الملذات.. تراجيديا إغريقية.

تراها أدركت أنني كنت أعدها لمتعة مع وقف التنفيذ, وأنني ألقمها فاكهة الفراق!



لم أتوقع أن يجرؤ الحب على التخلي عنا هنا حيث قادنا, ولكن, أكان يمكن أن يحدث شيئاً بيننا في ذلك البيت المزدحم بأشباح عشاق, لم يكن لهم الوقت الكافي لتغيير شراشفهم وجمع أشيائهم.

ما كانت هي ولا كنت أنا. تحدثنا لغة ليست لغتنا. قلنا كلاماً غبياً لفرط تذاكينا. كنا نتكلم ثم نصمت فجأة, كي لا نقول أكثر من نصف الحقيقة, محتفظين لألمنا بنصفها الآخر.

طوال السهرة , كنا نعاند تعب الأسئلة, نغالب نعاس الأجوبة. أما كان يحق لصبرنا من سرير تتمدد عليه رغباتنا المؤجلة؟

امرأة كانت رائحتها, قميص نومها ضمن لوازم نومك. وأنت الآن تستطيع النوم معها, ولا أنت تدري ماذا ستفعل بعدها.

وكنت في تاريخ بعيد لحبكما, تستبقيها لحظة الفراق قائلاً " لا تغادري.. كل أعضائي تشعر باليتم عندما تغيبي" وها أنت يتيم في حضرتها. يبكيها كل شيء فيك ولا ترى.

وكنت تقول لها, وأنت تغدق عليها بتلك اللذة الشاهقة " سأفسدك إمتاعاً حتى لا تصلحي لرجل غيري" وكنت تظن عندما افترقتما أنك ما عدت تصلح لامرأة بعدها. وها أنت تكتشف أنك لم تعد تصلح حتى لها. فهل استدرجتها إلى هنا لاستخراج شهادة الموت السريري لحب كان حياً بغيابكما؟



تمددت جواري في ذاك السرير, أنثى منزوعة الفتيل. ضممتها إلى صدري طفلة وديعة, تلوذ بي, كذلك الزمن الذي كانت تسألني فيه فزعة " هل ستعيش معي؟" , فأطمئنها ورأسي يتململ بحثاً عن المكان الأدفأ في صدرها " سأعشش فيك", فتلح بذعر العشاق " حقاً لن نفترق؟" فأجيب بسذاجتهم " حتماً لن ننشطر".

انتابني خوف مفاجئ بفقدانها, وأنا أكرر صمتاً الحركة ذاتها بحثاً عن مكان لرأسي في صدرها. ويصطدم وجهي بموسلين ثوبها الأسود الذي لم تخلعه. شعرت أن الموت سيسرق أحدنا من الآخر وأننا قد لا نلتقي أبداً.

عاودني ما قاله ناصر. ماذا لو دبَّر لها زوجها ميتة " نظيفة", أو ماذا لو اغتالها الإرهابيون مثلاً.

لم يكن هاجسي احتمال موتي أنا, إنما قصاص العيش بعدها.



كانت فكرة موتها الحقيقية, امتحاناً فاضحاً لعشقي إياها. فأنت لا يمكن أن تدرك مدى حبك لشخص, إن لم تتمثل محنة الغياب, وتتأمل ردود فعلك, وأحاسيسك الأولى أمام جثمانه.

يوم رحت أختبر وقع موتها الحقيقي عليّ, كدت أموت حقاً. تسارعت نبضات قلبي, وفاجأتني حالة اختناق وضيق في التنفس ظننتها ستودي بي. طلبت رقمها, ثم قطعت الخط لأتأكد من أنها على قيد الحياة. كنا في قطيعة طويلة, غير أني عندما استعدت أنفاسي حقدت عليها. كان يمكن للموت أن يختلسني في غفلة منها وتواصل بعدي تبذير كلمات ضنّت بها عليّ في حياتي.. لتشيّد بها صرح ضريحي في رواية.

كنّا متمددين بثيابنا في غرفة فرانسواز, تحيط بنا صورها المرسومة على اللوحات.

سألتني بنبرة ما قبل البكاء وهي تلتصق بي:

- أما عدت تحبني.. أم أنت تفكر بها؟

لم أجب.

في مثل هذه الحالات لا تصل الكلمات حية, وحدها التي لا نقولها تنجو من الرصاص الطائش للبوح.

ضممتها إلى صدري. وقلت وأنا أقبلها:

- نامي حبيبتي.. تصبحين على كتاب!
رد مع اقتباس