عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 05-27-2010, 12:52 AM
الصورة الرمزية مُنتهى آلرقـه
مُنتهى آلرقـه غير متواجد حالياً
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: الأمآكن الي مريت إنت بيهآ .,,
المشاركات: 1,259
مُنتهى آلرقـه is on a distinguished road
افتراضي

استيقظنا صباحاً على فاجعة الضوء.

كما في تحميض الصورة: الضوء أول فاجعة.

قالت مذعورة:

- كم الساعة؟

قلت وأنا أمازحها:

- لا أدري.. بأمر منك قررت ألا أنظر إلى الساعة!

نظرت إلى ساعة قرب طاولة النوم وصاحت:

- يا إلهي ! إنها الثامنة والربع.

نهضت من السرير نحو الحمام تصلح من هيئتها.

هكذا فجأة نفذ الوقت.

يوم ماكر يتربص بسعادة تتثاءب لم تغسل وجهها بعد. سرير غير مرتب لليلة حب لم تكن. عبور خاطف لرائحتها على مخدع امرأة أخرى.

قالت وهي تعيد ذلك الفستان الأسود إلى كيسه بعد أن ارتدت ثيابها:

- أبإمكانك أن تطلب لي تاكسي؟

- ابقي لتناول قهوة الصباح معي.. ثم امضي.

- لا أستطيع.. أفضّل أن أعود الآن هذا أأمن.

أحزنني ذلك كثيراً. فكم انتظرت صباحاً أبدأه معها.

قلت وأنا أرافقها لانتظار التاكسي:

- ما جدوى كل اختراعات الإنسان إن لم يخترع آلة لإيقاف الزمن بعد.. كم تمنيت أن نتناول فطور الصباح يوماً معاً.

علَّقت بنبرة تشي بمرارة خيبتها:

- وما جدوى أن يخترع الإنسان آلة لإيقاف الزمن, إن كان سينفق ما كسب من وقت لمجرد تناول الفطور والعشاء!

أحببت ذكاء تلميحها, تلقيته بابتسامة صامتة. كانت على حق.



كنت لحظتها أضع يدي في جيب سترتي لشدة البرد الصباحي, حين عثرت على حبات الشوكولاطة التي أعطاني إياها زيان عندما زرته في المستشفى.

راودتني فكرة ماكرة أسعدتني. كنت ما أزال أفكر في الطريقة المثلى لتنفيذها, عندما لمحت سيارة الأجرة في آخر الشارع تتجه نحونا, فلم يبق أمامي إلا أن أقبِّلها مودّعاً, وأمد لها بحبتين منها قائلاً:

إنها شوكولاطة أهداني إياها صديق زرته في المستشفى, تناوليها حتى لا تبقي على خواء.

ظلت لبرهة تتأمل قطعتي الشوكولاطة. حتماً تعرَّفت عليها من ماركتها المميزة, لكنها لم تقل شيئاً.

ركبت التاكسي وهي تحت وقع المفاجأة, بدون أن تفهم ما الذي أوصلني حتى غرفة زيان في المستشفى, وما الذي أوصل إلى جيبي تلك الشوكولاطة التي أحضرتها له.

شعرت, وأنا عائد إلى البيت, بفرحة من فاز في اللحظة الأخيرة في جولة شطرنج شاقة. لكن فرحتي لم تخل من مرارة موجعة ترافق وعينا بموت شيء جميل فينا.

....*

لا تحزن. هي ما جاءت لتبقى, بل لتشعرك بفداحة رحيلها.

ماذا تستطيع أن تفعل ضد امرأة , تذهب إلى الحب بعدّة ساحر, تبتكر من أجلك فنوناً خداعية, تمارس أمامك قلب الأشياء, إخفاء بعضها, استحضار أخرى, وتحويل كل ما هو حولك إلى وهم كبير. تضعك في صندوق زجاجي, وتشطرك في استعراض سحري إلى اثنين, واحد هو أنت, والآخر نسخة من رجل آخر. ثم تعيد إلصاق جزءيك في كتاب.

ساحرة, لا تدري أخرجت من بين يديها ثريَّا أم فقيراً؟ سعيداً أم تعيساً؟ أتراك أنت أم غيرك؟ أخرجت من قبعة خدعتها حمامة بيضاء.. أرنباً مذعوراً.. أم مناديل ملوَّنة للدموع؟

خطر لي وأنا أضع ساعتي من جديد, أن الحب ساحر يبدأ استعراضه بخديعة تجريد ضحاياه من ساعاتهم المعصمية.

هل فقط عندما تتلاشى أباطيل السحر, وخدع الحواة, يمكننا النظر إلى الساعة؟



إنها التاسعة والنصف صباح أحد.

قهوة مرّة سوداء أتناولها وحدي في مأتم الحب لمواجهة بياض الوقت, الذي لا أدري كيف أنفقه في يوم ممطر كهذا.

وضعت شيئاً من الموسيقى, ثم رحت أخفي آثار ما لم يحدث في بيت غادرت زائرته, صافقة باب الحلم خلفها.

بدأت بتفقد غرفة النوم. دوماً كنت أكره الأسرّة التي لا رائحة لها, والنساء المهووسات بنشل غسيلهن على حبل التشاوف. لكن هذه المرة كان علي أن أحتاط من وشاية الأنوثة. ففرانسواز ستعود غداً . لكأنها غابت فقط كي تترك لي ما يكفي من الوقت لنصب سرداق عزائي.



عندما نراجع حياتنا نجد أن أجمل ما حدث لنا كان مصادفة, وأن الخيبات الكبرى تأتي دوماً على سجاد فاخر فرشناه لاستقبال السعادة.

قررت عن أسىً ألا أخطط لشيء بعد الآن, عدا الاستعداد لمغادرة هذا البيت قبل خروج زيان يوم الأربعاء من المستشفى. فعليَّ أيضاً ألا أترك ما يشي بمروري. وقبل أن أنسى, ذهبت لإخفاء أشرطة الأغاني القسنطينية, خشية أن أتركها في جهاز التسجيل, فيستنتج أنني أقمت هنا.

أثناء تفكيري في كل التفاصيل, تذكرت أنني لم أزره منذ يومين, وأنه قال لي وهو يمدني بقطع الشوكولاطة تلك, إنه كان يفضل لو جاؤوه مكانها بشيء من "الزلابية" أو " قلب اللوز" , مازحته:

- رمضان ما زال بعيداً.

- لكن المريض يشبه الصائم. إنه يقضي وقته في اشتهاء المأكولات, خاصة تلك المرتبطة بذاكرة طفولية أو عاطفة.



وجدت في فكرة الذهاب إلى أحد الأحياء المغاربية التي لا تعترف بالعطل الفرنسية لأشتري له شيئاً من الحلويات الجزائرية, قبل أن أعوده في المستشفى, أفضل ما يمكن أن أفعل في يوم أحد, خاصة أن شعوري بالذنب كان يتزايد تجاهه.

ألهذا رحت أجول في السوق العربيّ, بحثاً عن كل ما يمكن أن يحمل من الجزائر في كيس؟

اشتريت علبة صغيرة من التمر, ورغيفاً من الكسرة له, وآخر لي, بعد أن قال لي البائع إن سيدة تعد هذه الأرغفة كل يوم وإنها تنفذ بسرعة.

عجبت لذلك العالم الذي كنت أجهله عن جزائر أخرى نقلت بكامل منتوجاتها وعاداتها إلى حي احتلته الوجوه السمر. وتذكرت قولاً ساخراً لمراد " عدا أمك وأبيك.. تجد في هذا البلد كل شيء".

توقفت بعد ذلك في مطعم شعبي يدّعي تقديم " كسكي ملكي". أقنعت نفسي لجوعي أنه كذلك. كنت في الواقع أريد أيضاً هدر بعض الوقت حتى تحين ساعة الزيارات.



وصلت إلى المستشفى عند الساعة الثانية, كان في المستشفى حركة غير عادية, بسبب الزيارات التي تتزايد أيام العطل.

سعدت لمجيئي حتى لا يشعر زيان بوحشة أكبر هذا اليوم بالذات. سعدت أيضاً لـ" حمولتي الوطنية", كانت هذه أول مرة أحضر له أكلاً بدل الصحافة التي لا تزيده إلا همَّا.

طرقت الباب بفرحة المباغتة, ثم فتحته كعادتي متقدماً خطوة نحو الأمام, لكنني فوجئت بعجوز مشدودة إلى أنبوب الدواء تشغل مكانه في ذاك السرير. هزيلة, شاحبة اللون, لها نظرات فارغة, حلَّ مكانها حين رأتني تعبير يستجد بي, مطالبة بشيء ما لم تفصح عنه ولا أنا أدركته.

بقيت برهة مذهولاً أنظر إليها, قبل أن أعتذر وأغادر الغرفة مسرعاً.



قصدت مكتب الممرضات في الطابق, أسأل عن مريض الغرفة رقم 11. كنت أثناء ذلك أهدّئ من روعي, فقد يكونون قد اصطحبوه لإجراء فحوصات أو للتصوير الشعاعي, أو ربما غيروا غرفته ليس أكثر, ذلك أنني تذكرت أنه قال لي مرة منذ أكثر من أسبوعين " قد لا تجدني في هذه الغرفة, قد أنقل إلى جناح آخر", قبل أن يعلّق مازحاً " أنا هنا عابر سرير".

توقعت أن تدلني الممرضة على الرقم الجديد لغرفته, لكنها سألتني إن كنت من أقاربه. أجبت " نعم". قالت:

- لقد اتصلنا بالرقم الهاتفي الذي في حوزتنا لنخبركم بتدهور مفاجئ لصحته ليلة البارحة, وتركنا رسالة صوتية نطلب حضور أقاربه, ولم يتصل بنا أحد وعاودنا الاتصال على الرقم نفسه هذا الصباح دون جدوى.

بين الذعر والعجلة سألتها:

- متى كان هذا؟

- عند العاشرة والنصف صباحاً.

كان ذلك الوقت الذي خرجت فيه لأشتري حاجيات للأكل قبل أن تغلق المحلات الغذائية ظهر الأحد.

عادت إلى دفتر كبير كان أمامها:

- الاتصال الأول كان البارحة عند التاسعة والربع مساءً.

استعجلتها:

- وهل بإمكاني أن أراه الآن؟

ردت بنبرة من تدرب أعواماً على مواساة الغرباء:

-Je suis desolee monsieur..Il est decede.

بدا لي كأنها لفظت الخبر بالعربية. قام القلب بترجمته الفورية إلى لغة الفاجعة, واختصر كل الجملة وما تلاها بعد ذلك من واجب المواساة في كلمة واحدة, نزلت علي كصاعقة من ثلاثة أحرف.

لم أفهم كيف أن ثلاثة أحرف مجتمعة في ذلم السياق تصبح برغم انسيابها الموسيقي مؤلمة إلى ذلك الحد. حتى لكأن التاء المفتوحة في آخرها ليست سوى تابوت.

كان احتمال موته قائماً, لكنني لم أتوقعه أن يأتي سريعاً, ولا بهذا التوقيت. هذه المصادفات مجتمعة باتت أكثر تعسفية من أن تكون مصادفات. لها إصرار القدر في عبثيته.

قالت بتأثر:

- أمر مؤلم أن يموت قبل مغادرته المستشفى بيومين. كان يبدو سعيداً بخروجه. أنا نفسي فؤجئت عندما قيل لي هذا الصباح إنه قضى ليلة أمس في قسم العناية الفائقة.

سألتني بعد ذلك وهي تراني أقف لحظات مذهولاً أمامها بدون أن أقول شيئاً, إن كنت أريد أن أراه. أجبتها "لا". أمدتني بورقة لأوقعها إن كنت أنوي استلام أشيائه. لمحت في الخزانة التي فتحتها, علبة الشوكولاطة الفاخرة فوق كومة ثيابه. أجبتها إنني أفضل أن أترك ذلك فيما بعد.



تركتها وغادرت المستشفى مذهولاً, مشلول الأحاسيس, كأن دموعي تجمدت في براد يحوي الآن ما كان "هو".

أخذت الميترو محملاً بالكيس ذاك. بكل ما أحضرته له,وما عاد في حاجة إليه. حاولت أن أتخلص منه بعد ذلك, بالتصدق به, في إحدى المحطات على أحد مشردي الميترو, فارتاب في أمره, ولم يبد حماسة في أخذه مني. كان يفضل مكانه, قطعة نقدية من عشرة فرنكات, يشتري بها نبيذاً, فوجدتني أعطيه الكيس وعشرة فونكات لأقنعه بحسن نواياي.



هو سيد التهكم والصمت الملتبس, ما ترك لي فرصة لكذبة أخيرة, كنت أعددتها لأبرر انشغالي عنه.

ربما كان يحتاج إلى تلك الكلمات التي احتفظت بها خوفاً عليه. كان يحتاج إلى الحقيقة, فأعفاني بموته من مزيد من الكذب.

قرر العبور إلى سريره الأخير بينما كنت أنا أشغل سريره الأول.

أهداني بيته, نساءه, وأشياءه, وما ترك لي فرصة لأهديه ولو بعض قطع من الزلابية, وأحقق أمنيته الأخيرة البسيطة, بساطة من شبع غربة..وما بقي له سوى جوع الوطن.

أستعيده متهكماً, تهكم ذلك الغياب الشارد الذي يسبق اكتمال الغياب. كم من الأشياء كنت سأقولها له اليوم, لو لم أكن منهك القول, مذ أصبح بيننا كل هذا البياض. منذ متى وهو ذاهب صوب الصمت الأبيض؟

عندما وصلت إلى البيت, شعرت وأنا أدخله بهول الفاجعة. بصدمة الواقع الذي يدفعك تحت عجلات قطار ركبته بنية الحلم.

ارتميت على أريكة الصالون منهكاً كحصان سباق.

كان عليَّ بدءاً أن أتوقف عن الركض قليلاً. أن أجلس لأفهم ما الذي أوصلني إلى هذا البيت, أنا الذي كنت ألهو بممازحة الأدب, أكنت أمازح القدر دون علمي؟

أدخلني الموقف لغرابته في حالة ذهول من أمري. رحت أتأمل مشهداً كأنني لست بطله.. كأنني شاهدته في زمن ما.

يوم قرأت سيرة ذلك الرسام, وجدتني أتماهى معه في أمكنة كثيرة من تلك القصة. تمنيت أن أكرر حياته بما تستحق الإعادة من ذكاء. ولكن من يتذاكى مع "المكتوب"؟ المكتوب الذي بدأ بالنسبة لي بذلك الكتاب الذي لا يمكن أن تخرج من قراءته سالماً.

أمنه جاءت اللعنة؟ أم من "حياة"؟ تلك المرأة التي كانت تحمل اسماً يعني عكسه كعادة العرب في تسمية ما يرون فيه شراً بنقيضه؟

أم ترى اللعنة تكمن في الجسور التي ما زال إحداها معلّقاً قبالة هذه الأريكة؟

هنا أمامها عاش زيان حقيقة موت زياد الذي لم يكن يفصله عن التطابق به سوى حرف.

وفي حضرة هذه الجسور أجهش راقصاً على إيقاع زوربا بذراعه الوحيدة يوم أخبروه باغتيال أخيه الوحيد.

أمصادفة إذا كانت الجسور مبنية من الإسمنت, المادة التي تضمر في قتامتها غضباً مكتوماً وشراً صامتاً, كمن يدبر لك مكيدة؟ طالما شككت بنوايا الجسور, مذ اكتشفت في كل هارب شبهة جسر, لا أحد يدري لأي الطرفين ينتمي.

لكن زيان لم يكن هارباً. كان مهرباً لما ظنه وطناً.



يالغباء الرجل, بين ما يعتقده جسراً, وما يعتقد الجسر أنه وطن ثمة جثتك. فالجسر لا يقاس بمدى المسافة التي تفصل طرفيه, بل بعمق المسافة التي تفصلك عن هاويته.

عندما تولد فوق صخرة, محكوم عليك أن تكون سيزيف, ذلك أنك منذور للخسارات الشاهقة, لفرط ارتفاع أحلامك.

نحن من تسلَّق جبال الوهم, وحمل أحلامه.. شعاراته.. مشاريعه.. كتاباته.. لوحاته, وصعد بها لاهثاً حتى القمة. كيف تدحرجنا بحمولتنا جيلاً بعد آخر نحو منحدرات الهزائم؟

من يرفع كل الذي وقع منا في السفح؟



عندما دخلت فرنسا بعد سبع سنوات من الوقوف ذليلةٍ أمام تلك القلعة المحصنة كعش نسر في الأعالي, راح خيالة قسنطينة وفرسانها الذين لم يعتادوا على مذلة الأسر. يقفزون بخيولهم من على الجسور عائدين إلى رحم الوديان. كان آنذاك الموت قفزاً نحو منحدراتها الشديدة, آخر نصر لرجال لا مفخرة لهم سوى أنهم أبناء الصخرة.

بهم انتهى زمن الموت الجميل, وأصبح وادي الرمال مجرى لنفايات التاريخ, تطفو فيه مع قمامة المدينة وأخبار لصوصها المحترمين, جثث أبنائها الجميلين والبائسين.

لا شيء يستطيع أن يمنعك من تسلق " جسور الموت" حتى ذلك الحزام الأمني الذي, بعد أن كثرت حالات الانتحار, أحاطوا به خصر الجسور لتصبح أعلى. قد يمنعك أن تطل على الموت, ولكن لا يمنع الموت أن يطل عليك, حيث أنت في حضيض خيباتك.



فجأة, مثل حياة, بدأت أتطير من هذه اللوحات. ووجدت في جلوسي أمامها, استفزازاً صامتاً لقدر لا قوة لي على مواجهته.

سعدت أنني سأغادر هذا البيت قريباً, وأنها ستبقى هنا. ثم تذكَّرت اللوحة التي اشتريتها وما زالت معروضة حتى انتهاء المعرض. فكرت أن أكلِّف فرانسواز بإحضارها. ثم فكرت في غرابة سفري مع جثمان زيان برفقة تلك اللوحة.

أوصلني التفكير إلى حقيبتي التي لا بد أن أعدها, وأشياء زيان التي علي أن أقوم بفرزها بسرعة, لأنني لا أدري متى سيكون سفري إلى قسنطينة حسب تاريخ الرحلات.

ووجدتني أستعيد ما كنت عشته منذ سنتين بعد اغتيال عبد الحق, عندما كان عليَّ أن أجمع أشيائي في بيته الذي كنت أقيم فيه بين الحين والآخر في تلك الفترة التي كان فيها الصحافيون يغيرون عناوينهم يومياً, والتي كان عبد الحق بدوره لا يعرف عنواناً ثابتاً مذ استشعر خطر اغتياله.



ربما كان الأمر أهون يومها, لأنني لم أكن معنياً سوى بجمع أشيائي, بينما تركت لزوجته عذاب التكفل بأشيائه. غير أن وجعي كان بسبب كل ما كانت حياة قد أحضرته.حتى إنّ زيارة بعد أخرى, أصبح البيت ينقسم إلى أشياء عبد الحق البسيطة, وتلك الأشياء الأخرى الفاخرة, التي كانت تهربها من بيتها, وتأتي بها, مشفقة على بؤس شقة, لا علاقة لها بفخامة مسكنها, غير مدركة أنها تؤثث شقة صديقي!

في البدء كنت سأشرح لها الحقيقة, ولكن كنت أحببت سوء الفهم العشقي الذي تورطنا فيه, وإغراء تلك العلاقة الملتبسة التي تجمعنا.

وكان بإمكان عبد الحق, كلما مر, أن يعرف وتيرة زياراتها من مستجدات البيت, من مناشف جميلة, وشراشف أنيقة, ومنافض من الكريستال, ولوازم مطبخ, وروب للحمام.

بدأت أتعود أن أراها تأتي من بيتها محملة دائماً بكل ما تقع عليه يداها, حتى الأجبان المستوردة.. وألواح الشوكولاطة.. وعلب السجائر. بل حدث لفرط إجرامها العاطفي المغلف بالعطاء, أن أهدتني ثياباً ومصاغاً اشترته نيابة عني لزوجتي!

كانت امرأة سخية في كل شيء. في خوفها عليك, في انشغالها بك, في اشتهائك, في إمتاعك.. وحتى في إيلامك.

ذلك السخاء العشقي الذي تشعر عندما تفقده بفاجعة اليتم الأول, لأنك تعي أن لا امرأة بعدها ستحبك بذلك الحجم ولا بتلك الطريقة. ذلك أنك أثناء انبهارك بها, كانت تلك المرأة تعيث فيك عشقاً وفسقاً وكرماً, وتفسدك وتخرِّبك وتدلَّلك وتشكّلك, بحيث لن تعود تصلح لامرأة عداها.
رد مع اقتباس