وقفت أتأملها, كأنني أعتذر لها لأنني ما استطعت أن أحتفظ بها, كأنني بطول النظر إليها أحاول اغراءها بأن تلحق بي " خطيفة" كما تهرب عروس ليلة زفافها , وتلتحق بمن تحب.
الآن وقد أصبحت لغيري, صار لي الدور الأجمل, فقد أصلح أن أكون لها عشيقاً, كقسنطينة الجالسة منذ 25 قرناً في حضن التاريخ, تمشّط شعرها وتمدّ من علوّ عرشها حديثاً مع النجوم. كان يلزمها عشيق يتغزّل بها, ويحنِّي قدميها المتدليتين في الوديان, يدلّلها, يغطيها ليلاً بالقبل كي تنام.. لا زوجاً سادياً يعود كلّ مساء بمزاج سيء فيتشاجر معها ويشبعها ضرباً!
ألم يقل عبد الحق متحسراً على قدر قسنطينة " هذه أنثى أكثر فتنة من أن تكون امرأة لأحد, وأكثر أسطورة من أن تحبل بكلّ هذه الأجنة العشوائية. فكيف أوثقوها إلى هذه الجبال.. وأنكروا عليها أن تتململ انزلاقاً لحظة اغتصاب".
كنّا أنا وهي في مناظرة صامتة. كانت, كنساء قسنطينة, أكثر جبناً من أن تحسم قدرها. وكانت من ذلك النوع من اللوحات, الذي ينظر إليك تلك النظرة المخترقة, فتتحول أمامها بدورك إلى لوحة, في لحظة ما, بدت لي كأنها ما عادت جسراً, بل أنا الذي مسخت جسراً. حتى إنها ذكرتني بـ" ماغريت" حين رسم غليوناً وسمّى لوحته " هذا ليس غليوناً".
أكان يلزم زيان عمر آخر ليدرك أن هذا الشيء الذي رسمه منذ أكثر من ثلاثين سنة, ما كان جسراً ولا امرأة ولا مدينة ولا وطناً. ذلك أن " الوطن ليس مكاناً على الأرض إنه فكرة في الذهن".
إذن من أجل فكرة, لا من أجل أرض, نحارب ونموت ونفقد أعضاءنا ونفقد أقرباءنا وممتلكاتنا. هل الوطن تراب؟ أم ما يحدث لك فوقه؟
أنسجن ونشرد ونغتال ونموت في المنافي ونهان من أجل فكرة؟
ومن أجل تلك الفكرة التي لا تموت حتى بموتنا نبيع أغلى ما في حوزتنا, كي نؤمن تذكرة شحنٍ لرفاتنا, حتى نعود إلى ذلك الوطن الذي ما كان ليوجد لولا تلك الفكرة المخادعة!
كنت أفكر : ماالذي جعل هذه اللوحة هي الأهم دون غيرها لدى زيان؟ لم أجد جواباً إلا في قوله ذات مرة:" نحن لا نرسم لوحاتنا بالشيء نفسه, كل لوحة نرسمها بعضو فينا". منذ زمان توقفت عن رسم الأشياء بيدي أو بقلبي. جغرافية التشرد الوجداني علمتني أن أرسك بخطاي. هذا المعرض هو خريطة ترحالي الداخلي. أنت لا ترى على اللوحات إلا آثار نعلي. بيكاسو كان يقول" أذهب إلى المرسم كما يذهب المسلم إلى الصلاة,تاركاً حذائي عند الباب". أنا لا أدخل اللوحة إلا بأتربة حذائي. بكل ما علق بنعلي من غبار التشرد.. أرسم".
كانت, إذن, اللوحة التي رسمها زيان بقلبه, ومن كل قلبه قصد أن يتمدد عليها كجسر ويخلد إلى النوم.
بها بدأت وانتهت قصة العجوز والجسر. رجل عاش في مهب الجسور. له الريح كلها وكل هذه الأبواب المخلوعة التي تؤثث الجدران في غيابه وتعبث بها الريح في المساء, لكأنها تقول لمن توقف عندها: " لا تطرق كل هذا الطرق.. ما عاد الرسام هنا".
هو الذي كان يعكس أسئلته جسوراً وأبواباً. تصورته كلما توقف أمام لوحة يجيب بجديته العابثة على سؤال لها:
- لماذا توقفت عن الرسم؟
- لأنسى .. " أن ترسم يعني أن تتذكر"
- لماذا تخليت عن الألوان المائية؟
- لأن الألوان الزيتية تسمح لك بتصحيح أخطائك.. أن ترسم أي أن تعترف بحقك في الخطأ.
- يا سيد السواد.. لماذا أنت ملفوفاً بكل هذا البياض؟
- لأن الأبيض خدعة الألوان. يوم طلبوا من ماري أنطوانيت وهم يقودونها إلى المقصلة, أن تغيِّر فستانها الأسود.. خلعته وارتدت ثوبها الأكثر بياضاً.
- لماذا أنت على عجل؟
- أمشي في بلاد ونعلي يتحسَّس تراب وطن آخر.
- ولماذا حزين أنت؟
- نادم لأني ارتكبت كلّ تلك البطولات في حقّ نفسي.
- ماذا نستطيع من أجلك نحن لوحاتك المعلقة على جدار اليتم؟
- متعب! اسندوني إلى أعمدة الكذب.. حتى أتوهم الموت واقفاً!
....*
مساءً , عدت إلى البيت محملاً بزجاجة خمرٍ فاخرة, وبقارورة عطر ملفوفة بكثير من الشرائط الجميلة هدية لفرانسواز.
كنا في أعياد نهاية السنة. كلّ شيء كان يذكرك بذلك. وأنت الذي لا تملك ثقافة الفرح, إمعاناً منك في الألم, عليك أن تنفق ما بقي من ثمن تلك التذكرة في تبضع مبهج.
فوجئت فرانسواز بحمولتي وهي تفتح لي الباب. سألتني إن كنت أحضرت التذاكر.
طمأنتها:
- نعم. ثم واصلت: هذا العطر لك.
قالت وهي تقبلني:
- شكراً. كيف فكّرت في هدية, في خضم هذه الأحزان؟
- ليس أمامي إلا اليوم لأشكرك على كلّ شيء.
قرَّرت لليلةٍ أن آخذ إجازة من المآسي بما يقتضيه الموقف من تطرّف الحزن. إحساس عصيّ على الإدراك ينتابني دائماً. رغبة في أن أعيش تعاسة خالصة أو سعادة مطلقة. أحبّ في الحالتين أن أدفع باللحظة إلى أقصاها, أن أطهو حزني بكثير من بهارات الجنون وتوابل السخرية, أحب أن أجلس إلى مائدة الخسارات بكل ما يليق بها من احتفاء, أن أحتسي نبيذاً فاخراً, أن أستمع إلى موسيقى جميلة, أنا الذي لم يكن لي وقت لأستمع إلى شيء عدا نشرات الأخبار.
وحدها تلك السخرية, ذلك التهكم المستتر, بإمكانه أن ينزع وهم التضاد بين الموت والحياة, الربح والخسارة.
قبل أن أجلس إلى كأسي, طلبت ناصر لأخبره بوفاة زيان, وكنت أجّلت الاتصال به إلى اليوم, حتى لا أجدني مضطرَّاً إلى الحديث مع مراد, الذي انتهى أمره بالنسبة لي, وحتى لا ينقل ناصر الخبر إلى حياة فتفسد عليّ قدسية حزني. فقد أصبح موت زيان قضيتي وحدي.
صاح ناصر من هول الخبر:
- إنّا لله وإنّا إليه راجعون.. يا خويا مش معقول كنت معاه غير هاذ الجمعة.. كان يبان لا بأس عليه.. الدنيا بنت الكلب تدّي الغالي وتخلّي الرخيص.. كان سيد الرجال.
أخبرته أن الجثمان سينقل غداً إلى قسنطينة وأننا سنكون في المطار عند السادسة مساءاً , إن كان يريد أن يقرأ الفاتحة على روحه.
قال إنه سيأتي طبعاً. وبدا متأسّفاً لغياب مراد الذي سافر قبل يومين إلى ألمانيا. كان هذا أجمل خبر زفّه لي. سألني إن كان سيحضر أحد من السفارة. قلت " لا أعتقد". قال " موعدنا إذن غداً".