كانت فرانسواز أثناء ذلك طلبت بيتزا إلى البيت. فقصدت المطبخ أعدّ سلطة, وأقلي صحناً من " النقانق" التي اشتريتها قبل يومين من جزّارة " حلال" . فلتناقضاته الغريبة يصرّ الجزائري حتى وهو يحتسي نبيذاً ألاَّ يتناول معه إلا اللحم الحلال!
قالت فرانسواز وهي تراني أضع الصحن على الطاولة:
- يا إلهي.. كم في هذا الصحن من مواد دسمة. أتدري أن زيت القليّة عدوك الأول؟
ابتسمت. كيف لي أن أرتب سلم العداوات, وأين أضع أعدائي الآخرين إذن, إذا كان الدسم هو عدوي الأول! وأين هي عداوة الزيت, ومكيدة الزبدة, وغدر السجائر, ومؤامرة السكّر, ودسائس الملح, من غدر الأصدقاء وحسد الزملاء وظلم الأقرباء ونفاق الرفاق ورعب الإرهابيين ومذلة الوطن؟ أليس كثيراً كل هذه العداوات على شخص واحد!
تذكرت زيان يوم طلب مني أن أغلق باب غرفته كي يشعل سيجارة. سألته متعجباً:
- أوَليس التدخين ممنوعاً في المستشفى؟
ردَّ مبتسماً:
- طبعاً.. بل يعادل ارتكاب جريمة. لكن كما قال أمل دنقل لطبيبه وهو على سريره الأخير:" خُلِق القانون ليخترق". ثم أنت لا تستطيع يا رجل أن تعيش وتموت مطيعاً, ولا أن تكون جباناً في السابعة والستين من عمرك.. وتخاف سيجارة!
تأملت يومها منفضته المخبأة في جارور الطاولة الصغيرة القريبة من سريره. كانت ملأى بأعقاب سجائر تكاد تكون كاملة, كحرائق أخمدت على عجل, كأنه لم يسحب منها سوى نَفَس واحد.
كان يبدد الحياة, كما يتلف السجائر لمتعة إشعالها. ما كان في المنفضة من وجود لأعواد ثقاب. إن رجلاً بيد واحدة لا يمكن أن يستعمل علبة كبريت, ألذا لا تفارقه الرغبة في إضرام النار؟
قال متهكماً:
- لا تصدق أن الأشياء مضرة بالصحة. وحدهم الأشخاص مضرّون. وقد يلحقون بك من الأذى أكثر مما تلحق بك الأشياء, التي تصرّ وزارة الصحة على تحذيرك من تعاطيها. ولذا كلَّما تقدَّم بي العمر, تعلَّمت أن أستعيض عن الناس بالأشياء, أن أحيط نفسي بالموسيقى والكتب واللوحات والنبيذ الجيد, فهي على الأقل لا تكيد لك, ولا تغدر بك. إنها واضحة في تعاملها معك. والأهم من هذا أنها لا تنافقك ولا تهينك ولا يعنيها أن تكون زبّالاً أو جنرالاً.
واصل ساخراً:
- قرأت منذ مدّة أن زبالاً في فرنسا فقد ذراعه بعدما علق قفّازه في أسنان مكبس الشاحنة, بينما كان يحاول دفع النفايات الضخمة بيده بعيداً في جوفها. فكرت أن هذا الرجل الذي فقد ذراعه في معركة الحياة "القذرة" وهو ينازلها للحصول على لقمة نظيفة, لن تكون له وجاهة ضابط فقد ذراعه في معركة من أجل الإستيلاء على الوطن. فالأعضاء تساوي ما يساويه أصحابها. الجنرال أنطونيو لوبيز دي سانتانا الذي حكم المكسيك حكماً دكتاتورياً ثلاث مرّات, أقام جنازة رسمية مهيبة لساقه اليمنى التي فقدها في ما يسمى حرب الفطائر. فبين ذراع الزبال وساق الجنرال فرق خمس نجوم. نحن لسنا متساوين في الإعاقة سوى أمام الأشياء. فالرّجْل الخشبية التي كانت تحمل ذلك الجنرال.. وحدها لم تكن ترى نجومه!
أكثر من فنّه, كانت حكمة ذلك الرجل هي ما يذهلني. ذلك أن صوته لم يفارقني. كان يأتي في كل مناسبة ملتبس الإضاءات في جملة. وسعادتي اليوم تكمن في تلك الأشرطة التي سجّلت عليها جلسات حواراتنا, يوم كان, وهو ممدد في ذاك السرير مربوطاً إلى أكسير الذاكرة, يحدثني عن قناعات سكن فيها مع العمر.
رجل مات وترك لي صوته. صوته ذاك, بين غيوم اللغة وصحو الصمت, يتقدَّم ككاسحة أوهام, يدرّبك على فنّ إزالة خدع الحياة الفتّاكة وألغامها.
وقفت أبحث عن أغنية تناسب مزاجي, أغنية كمكعّبات الثلج, كانت تنقص كأسي. كنت أريدها عربية. استأذنت فرانسواز في سماعها, ذلك أن الحزن في هذه الحالات كالطرب لا يكون إلا عربيَّا.
سألتني عن كلماتها. ما كانت لي رغبة في أن أشرح لها الأغنية, لكنني قلت بمجاملة:
- إنها أغنية يتوجّه فيها المغني لامرأة قاسية.. أحبّها وتخلَّت عنه.
كيف أترجم لها أغنية تحيك لك مؤامرة بكاء, وتذبحك فيها الكمنجة ذهاباً وإياباً. أية لغة, أية كلمات, تحمل كمَّا كافياً من الشجن لتقول بها:
- " آآآه يا ظالمة.. وعليك انخلّي أولاد عرشي يتامى".
شعرت أن لا عجب في تشابه حياة بهذه المرأة التي يبكيها الفرقاني. لكأن كل أغنية في العالم أيّاً كان من يغنيها, هو لا يبكي ولا يشكو سواها. هي المتهم الأول في كل أغاني الحبّ, الخائن دوماً في كل قصة, الجاني في كل فيلم عاطفيّ, وبإمكانك إلباسها كلّ الجرائم العشقية عبر التاريخ.
سألتني فرانسواز:
- أكلّ الأغاني العربية حزينة هكذا؟
أجبتها كمن ينفي تهمة:
- لا.. ليس دائماً.
ردت كأنها تجاملني:
- قد يكون هذا الحزن سر رومنطيقية العرب وتمتعهم بذلك السخاء العاطفي.
قلت متهكماً:
- سخاؤنا العاطفي يا عزيزتي سببه يتمنا لا حزننا, لاأكثر سخاءً من اليتامى. نحن , على كثرتنا أمة يتيمة, مذ تخلّى التاريخ عنّا ونحن هكذا... اليتيم كما يقول زيّان لا يشفى أبداً من إحساسه بالدونية- واصلت بعد شيء من الصمت- العطر الذي أهديتك إياه " شانيل رقم "5" دليل على ذلك. حتى عندما نجحت كوكو شانيل واشتهرت, لم تشف من عقدة يتمها.. وأطلقت على عطرها الأول الرقم الذي كانت تحمله في دار الأيتام التي تربَّت فيها. لاحظي بساطة القارورة في خطوطها المربعة دون أيّ نقوش أو فخامة أو طلاء. ذلك أن اليتم عارٍ وشفاف إلى ذلك الحد. حتى أنه لا يحمل اسماً . بل رقماً. إن معجزة شانيل ليست في ابتكارها عطراً شذيًّا, بل في جعلها من اليتم عطراً ومن الرقم اسماً.
قالت فرانسواز مندهشة:
- عجيب.. لم أكن أعرف هذا.
- هذا أمر لا يعرفه الكثيرون. وربما لم تكن تعرفه حتى مارلين مونرو التي كانت لا تتعطَّر بغيره, حتى إنها عندما سئلت مرة " ماذا ترتدين للنوم؟" أجابت " بضع قطرات من شانيل رقم 5". وفهم من كلامها أنها لم تكن ترتدي شيئاً.
- يا إلهي من أين لك هذه المعلومات؟
قلت مازحاً:
- هذه يا عزيزتي ثقافة اليتم. ثم واصلت بنبرة أخرى: أحدثك عن مارلين مونرو لأنني تذكرتها اليوم في المعرض. يحكى أنها لفرط إحساسها باليتم, كانت تملك القدرة عند دخولها أي مكان, أن تميز يتيماً من بين أربعين شخصاً. قد فاجأني هذا الإحساس اليوم وأنا أدخل الرواق, كان بإمكان أي زائر للمعرض بدون أن يمتلك هذه الحاسة, أن يكتشف يُتْم تلك اللوحة بين كل اللوحات.
مرعب ذلك الإحساس الذي تخلّفه في قلب أي ناظر إليها. ما كنت قبل اليوم لأصدق يُتْم اللوحات. على كلٍّ.. ماكان في المعرض زوار ليلحظوا ذلك.
قالت فرانسواز:
- لا تقلق, الناس مشغولون بالأعياد.. والكثيرون لم يسمعوا بموت زيان بعد.
ثم واصلت بتذمر:
- بالمناسبة.. أتدري أن الرواق قد باع تلك اللوحة بـ 50 ألف فرنك؟ كسب 20 ألف فرنك من دون حتى أن تتحرك اللوحة من مسمارها. كان يكفي أن تتصل كارول هاتفياً بأحد زبائنها وتخبره أن الرسام مات , ليتضاعف السعر.
قلت بغضب:
- مكر سماسرة الفنون. ينتظرون موت الرسام, ليصنعوا ثروتهم من فنّ لم يستطع صاحبه التعيّش منه, ولا أن يضمن به موتاً كريماً.
سألتها بفضول:
- من اشتراها بهذه السرعة وبهذا الثمن؟
كنت أتوقع أن يكون المشتري أحد أثرياء المهجر الجزائريين الذين, وقد انتفخت حساباتهم بالمال المنهوب, درجوا على تبييض سمعتهم بالتسابق إلى شراء كل ما يعرض لكبار المبدعين الجزائريين, فلا أرى غير أحدهم بإمكانه أن يدفع خمسين ألف فرنك لشراء لوحة تعرض عليه بالهاتف, وقد سمعت أحد هؤلاء يقول مرة في مجلس مبرراً ولعه المفاجئ بالفن " إن كسب المال موهبة, وإنفاقه ثقافة". أثبت بما اختلس من أموال أنه " موهوب" لم يبق عليه إلا أن يثبت بما يقتني أنه مثقف!
غير أن فرانسواز فاجأت كل توقعاتي وهي تقول:
- إنه فرنسي ثري من ذوي " الأرجل السوداء" يملك لوحات نادرة منها مجموعة من لوحات " Les orientalistes ", وأخرى لمحمد راسيم. اشترى مؤخراً لوحات لأطلان عرضت للبيع. حتماً سمعت بأطلان.. رسام يهودي قسنطيني يعتبر أحد وجوه الفن التجريدي, مات في الستينات.. إشتهر بولعه بقسنطينة وبسجنه أكثر من مرة بسبب مساندته للحركات التحررية.
كنت لا أزال تحت وقع الدهشة عندما واصلت:
- أخبرتني كارول أنه كان يريد أن يشتري لوحات أكثر لزيان, ولكن لم يكن من حق الرواق بيع شيء بعد الآن, عدا لوحتك أنت طبعاً, لأنها بيعت قبل وفاة زيان.
ثم أمام ما بدا عليَّ من حزن قامت وجلست جواري تواسيني:
- لا تحزن هكذا, إنه رجل يحب الفن ومعروف عنه هوسه بكل ما له علاقة بقسنطينة.
زيان عندما عاد لأول مرة إلى قسنطينة أحضر له أشياء صغيرة من هناك. أظنه كان صديق طفولته, أو أنهما درسا معاً أو شيئاً من هذا القبيل.
سألتها وقد ضاع صوتي:
أتعتقدين أن زيان كان سيبيعها له؟