قالت:
- لا أظن ذلك, فزيان كان يرفض في جميع الحالات بيعها لأيِّ كان. ولولا إحساسه بالموت وثقته فيك لما باعها حتى لك. أظنه كان يود الاحتفاظ بها لنفسه, لكنه ما وجد أحداً ليورثه إياها. ابن أخيه اغتاله الإرهابيون بطريقة شنيعة منذ سنتين. وابن أخيه الآخر اختفى قبل سنوات ويعتقد أنه التحق بالإرهابيين, أو مات.أما أخوه الوحيد فقد اغتيل منذ عشر سنوات في أحداث 88.
لا أصعب على فنان من أن لا يجد في آخر عمره أحداً يطمئن إليه.. ويأتمنه على أعماله.
قلت بتهكم الحسرة:
- تدرين أن تسمية " الأرجل السوداء" أطلقت على المعمرين الفرنسيين الذين أرسلوا للاستيطان في الجزائر بعد الغزو الكولونيالي أوساط القرن التاسع عشر, إذ كانوا ينتعلون أحذية سوداء سميكة أثناء إشرافهم على المزارع و الأراضي. حتماً هذا الثري ما توقع أن يواصل انتعال التاريخ أباً عن جدّ. ولا توقع أن يأتي يوم لا يبقى فيه لهذه اللوحة من قريب سواه.. بعد أن انقرض أهلها في الحروب العبثية. كان عليه انتظار أن ينتهوا من الإجهاز على بعضهم البعض فيحظى بميراث كامل.
لعلها لم تفهم كلامي. قالت:
- في سوق الفن, الأمر قضية وقت لا غير. عليك أن تنتظر فقط, وبشيء من الصبر, وبما يلزم من مال, أنت تحصل في النهاية على أية لوحة تريدها. يكفي أن تقتنص الفرصة. أحياناً تصادفك ضربة حظ وتستفيد من لحظة غفلة كما هذه المرة, أثناء انشغال الناس بأعيادهم وقبل أن ينتشر خبر موت الرسام.
قلت وأنا أسكب شيئاً من الخمر:
- حتماً.. ما التاريخ إلا نتاج لحظات الغفلة!
ما كنت أبا عبد الله, ولا وجدتني مرغماً على تسليم مفاتيح غرناطة, فلم البكاء؟ إنها خسارات غير قابلة للشماتة, ما دمت اخترتها بنفسي.
عندما كانت تزورني حياة لساعة أو ساعتين على عجل, ثم تعود مذعورة إلى بيتها, قلت لها مرة:" لا يعنيني أن أمتلكك بالتقسيط. أرفض أن أربحك لساعات تذهبين بعدها لغيري, تلك الأرباح الصغيرة لا تثريني. أنا لست بقّال الحيّ, أنا عاشق يفضّل أن يخسرك بتفوق. أريد معك ربحاً مدمراً كخسارة".
لم أكن أدري أن أرباحاً فادحة تتوالد خساراتها, كتلك الجائزة التي مذ ربحتها وأنا أشتري بها خساراتي.
أعادني الموقف إلى زيان الذي, في هذا المكان عينه, رقص بين خرائبه بذراعه الوحيدة, كبطل إغريقي مشوّه في تلك الليلة التي تخلَّى فيها عن أكثر لوحاته لفرانسواز وذهب ليدفن أخاه.
كم تمنيت ألا أتماهى معه في هذا المشهد العبثي الأخير, أنا الذي جئت فرنسا لأستلم جائزة. أكان القدر قد جاء بي, فقط لأكون اليد التي تسلِّم لوحة وتستلم جثماناً؟
وضعت موسيقى زوربا وجلست أشرب نخبه.
عم مساءً يا خالد.
الآن وقد أصبحت جزءاً من هذا الخراب الجميل الذي لا يشبه شيئاً مما عرفت, ستحتاج إلى الرقص كثيراً يا صديقي. فارقص غير معنيّ بأن تفسد سكينة الموتى.
لا تقل تأخر الوقت. أنت تعيش في منطقة عزلاء من الزمن. لا جدوى من النظر إلى ساعتك, ليست هنا لتدلّك على الوقت, بل لتضع رفات الوقت بيننا.
انتهى الآن كل شيء. عندما أصبح كل ذلك الوقت, ما عدت معنياً بالزمن, ترى الأشياء بوضوح, لم يعد بإمكانك أن ترسمها. دخلت منطقة غياب الألوان, ذاهب صوب التراب.
تراب كنت تتوق إليه, أسميته وطنك. (وطنك؟) بإمكانك أن تذهب إليه على حسابك, دون أن تستعد كعادتك قبل موعد. لا جدوى من أناقتك, ففي ضيافة الديدان تتساوى الأجساد يا صديقي, ولن يوجد من يتنبّه لعطبك, لذراعك التي كلّما تعرَّيت أخفيتها عن الآخرين.
تراب يحتفي بك, وديدان أصبحت وليمتها تهزأ من نساء أحببنك وترفعت عن إمتاعهن. كنت ترفض إغراء عاهرة إسمها الحياة, وجئت اليوم تهدي جسد شيخوختك للحشرات.
أيها الأحمق, بعد الآن, كل ما ينسب لغيرك في الفسق أنت فاعله. كل خطيئة يحاسب عليها غيرك أنت مقترفها. كل حكمة يلفظها رجل أنت قائلها. كل امرأة تحبل, أنت من تسلَّل إلى مخدعها.
الآن وقد أصبح كل شيء خلفك, أنت أكثر حكمة من أي وقت مضى, فقم وارقص.
ارقص, لأنّ امرأة أحببتها خانتك معي.. وستخوننا معاً.
لأنّ بيتاً كان لك قد صار لسواك.
لأنّ لوحات رسمتها ذهبت إلى أيدٍ لم تتوقعها.
لأنّ جسوراً مجَّدتها تنكرت لك, ووطناً عشقته تخلى عنك.
لأنّ أشياء سخيفة احتقرتها, ستعيش بعدك.
لأنّ حسّان سيكون قريباً منك بعد الآن.
لأنّ أولاده الذين ربَّيتهم سقطوا في خندق الكراهية ولن يكونوا في جنازتك.
لأنّ قسنطينة التي عشقتها أشاحت عنك كما كانت الآلهة الإغريقية تزورّ عن رؤية الجثث..
نهضت فرانسواز نحو المطبخ حاملة صحون السفرة. ناديتها وأنا أرفع بعض الشيء من موسيقى زوربا:
- أرجوك كاترين.. تعالي للجلوس جواري, فعمّا قريب سنواجه مطبّات شاهقة.
قالت محتجة:
- ولنني لست كاترين.
أجبتها بنبرة مازحة:
- صحيح.. أنت لم تقرئي تلك الرواية. لو قرأتها لأدركتِ أنني أنا أيضاً لست خالد.
قالت بعدما عادت للجلوس جواري:
- أنت ثمل أليس كذلك؟
- تعتقدين هذا؟ لأنني قلت لك الحقيقة؟ الحقيقة يا عزيزتي تؤخذ من هذيان السكارى. أتدرين أن الطوارق يختارون أسماءهم بالقرعة, وكذلك أنا أصبحت خالد مصادفةً.
واصلت أمام اندهاشها المستخفّ بكلامي:
- في موسم قطف الرؤوس وحصاد الأقلام, فشلنا نحن الصحافيين في العثور على أسماء مستعارة نختفي خلفها من الإرهابيين. كلٌّ اختار اسمه الجديد حسب ما صادفه من أسماء. أنا انتحلت اسم بطل في رواية أحببتها.
واصلت بعد شيء من الصمت:
- إن شئت الحقيقة, خالد بن طوبال ليس أنا, إنما زيان. ولكن تلك قصة أخرى. في الواقع كان هذا اسمه في تلك الرواية, بينما أصبح هذا اسمي فس الحياة. ففي الرواية أيضاً نحتاج إلى استعارة أسماء ليست لنا, ولذا أثناء انتقالنا بين الاثنين كثيراً ما لا نعود ندري من نكون. إنها لعبة الأقنعة في كرنفال الحياة.
- ولكن ما اسمك؟
- وماذا يغيّر اسمي. ما دمت تعرفين لقب فمي وكنية يديّ, فكلَّما مرَّ شيء مني بك ترك إمضاءة عليك.
- جميل.. ولكن ما الاسم المكتوب على أوراقك الثبوتية؟
- لا أحب أن تكوني رجل بوليس يدقق في هوية عابر. افترضي أننا التقينا في تلك المنتجعات السياحية البحرية التي من أجل بلوغ وهم السعادة, يفرض فيها على الزبائن التخلي عن أسمائهم خلال فترة الإقامة, فتطلق عليهم أسماء بعض المحارات البحرية أو الآلهة اليونانية وأحياناً أرقام لا غير. أيّ قصاص أن تحملي اسمك قيداً مدى العمر!
أحسد سكان بلاد عربية يعيش فيها الناس بلا أسماء. لاعبو الكرة يستدلّ عليهم بأرقامهم, النوّاب يحملون أسماء مناطقهم, المسؤولون يحملون أسماء وظائفهم, المطربون لا يغّنون إلا في جوقة, الأموات لهم مقبرة جماعية يضع عليها الزوّار الرسميون إكليلاً للجميع. إنهم في منتجع التاريخ, اختزلوا أسماءهم جميعاً في اسم رجل واحد وارتاحوا. الحكم عملية اختزال. ثمّة نعمة في أن تكون "لا أحد". لا تتوفر لك, إلا عندما يأتي حاكم ويؤمم كل الأسماء, أو يأتي الموت ويبعثرك في كل شيء.
كان زوربا بدأ ينتفض رقصاً. وكنت أفكّر في بورخيس عندما يقول في نهاية كتابه " الخلد" " كنت هوميروس وقريباً أصير لا أحد, كما عوليس قريباً أصبح العالم كله, لأنني أكون قد متّ".
قرَّرت أن أضع ذراعي على كتف زيان ونبدأ الرقص سوياً, فزوربا رقصة تصبح أجمل عندما يؤديها رجلان بعنفوان الخاسرين.. فاتحين ذراعيهما لاحتضان العدم.
هيا زيان, انتهى الآن كل شيء فارقص. عندما ترقص , كما عندما تموت, تصبح سيد العالم. ارقص كي تسخر من المقابر.
أما كنت تريد أن تكتب كتاباً من أجلها؟ ارقص لأكتبه عنك.
تدبّر رجلين لرقصتك الأخيرة, وتعال من دون حذاء.
في الرقص كما في الموت لا نحتاج إلى أحذية