عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 05-27-2010, 12:14 AM
الصورة الرمزية مُنتهى آلرقـه
مُنتهى آلرقـه غير متواجد حالياً
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: الأمآكن الي مريت إنت بيهآ .,,
المشاركات: 1,259
مُنتهى آلرقـه is on a distinguished road
افتراضي

ماذا تراه رأى ذلك الصغير, ليكون أكثر حزنا من أن يبكي؟

لقد أطبق الصمت على فمه, ولا لغة له إلا في نظرات عينيه الفارغتين اللتين تبدوان كأنهما تنظران إلى شيء يراه وحده. حتى انه لم ينتبه لجثة كلبه الذي سممه الإرهابيون ليضمنوا عدم نباحه, والملقاة على مقربة منه, في انتظار أن ينتهي الناس من دفن البشر ويتكلفوا بعد ذلك بمواراة الحيوانات.

كان يجلس وهو يضم ركبتيه الصغيرتين إلى صدره. ربما خوفا, أو خجلا , لأنه تبول في ثيابه أثناء نومه أرضا تحت السرير, وما زالت الآثار واضحة على سرواله البائس.

هو الآن مستند إلى جدار كتبت عليه بدم أهله شعارات لن يعرف كيف يفك طلاسمها, لأنه لم يتعلم القراءة بعد.ولأنه لم يغادر مخبأه, فهو لن يعرف بدم من بالتحديد وقع القتلة جرائمهم, بكلمات كتبت بخط عربي رديء, وبحروف مازال يسيل من بعضها الدم الساخن. أبدم أمه, أم أبيه , أم بدم أحد إخوته؟

هو لن يعرف شيئا. ولا حتى بأية معجزة نجا من بين فكي الموت, ليقع بين فكي الحياة. وأنت لا تعرف بأية قوة, ولا لأي سبب, تركت الموت في مكان مجاور, ورحت تصور سكون الأشياء بعد الموت, وصخب الدمار في صمته, ودموع الناجين في خرسهم النهائي.

لك تكن تصور ما تراه أنت, بل ما تتصور أن ذلك الطفل رآه حد الخرس.

عندما كنت ألتقط صورة لذلك الطفل, حضرني قول مصور أمريكي أمام موقف مماثل:"كيف تريدوننا أن نضبط العدسة وعيوننا مليئة بالدموع؟"

ولم أكن بعد لأصدق, أنك كي تلتقط صورتك الأنجح, لا تحتاج إلى آلة تصوير فائقة الدقة, بقدر حاجتك إلى مشهد دامع يمنعك من ضبط العدسة.

لا تحتاج إلى تقنيات متقدمة في انتقاء الألوان, بل إلى فيلم بالأبيض والأسود, مادمت هنا بصدد توثيق الأحاسيس لا الأشياء.



أول فكرة راودتني, عندما علمت بنيلي تلك الجائزة العالمية عن أفضل صورة صحفية للعام, هي العودة إلى تلك القرية, للبحث عن ذلك الطفل.

كانت فكرة لقائي به تلح علي, وتتزايد يوما بعد آخر, لتأخذ أحيانا بعدا إنسانيا, وأحيانا أخر شكل مشاريع فوتوغرافية أصور فيها عودة تلك القرية إلى الحياة.

حتى قبل أن أحصل على مال تلك الجائزة, كنت قد قررت أن أخصص نصفه لمساعدة ذلك الصغير على الخروج من محنة يتمه. ونويت بيني وبين نفسي, أن أتكفل به مادمت حيا, بالقدر الذي أستطيعه.

لا أدري ماالذي كان يجعلني متعاطفا مع ذلك الطفل: أيتمنا المشترك؟ أم كونه أصبح ابنا لآلة التصوير بالتبني؟

وماالذي جعلني أستعجل التخلص من شبهة مال كانت تفوح منه رائحة مريبة,لجريمة كان جرمي الوحيد فيها توثيق فظاعات الآخرين. كأنني كنت أريد تبييض ذلك المال وغسله, مما علق به من دم , باقتسامه مع الضحية نفسها.



طبعا كانت تحضرني قصة زميلي حسين الذي من أربع سنوات حصل على الجائزة العالمية للصورة, عن صورته الشهيرة لامرأة تنتحب, سقط شالها لحظة ألم, فتبدت في وشاح حزنها جميلة ومكابرة وعزلاء أمام الموت, حد استدراجك للبكاء. لكأنها تمثال" العذراء النائحة" لمايكل أنجلو.

وكان حسين, عند وصوله إلى قرية بن طلحة, وجد نفسه أمام أكثر من ثلاثمائة جثة ممدة في أكفانها. فتوجه إلى مستشفى بن موسى حيث أخذ صورة لتلك المرأة التي فاجأها تنتحب, والتي قيل له إنها فقدت أولادها السبعة في تلك المذبحة.

بعد ذلك, عندما انتشرت الصورة وجابت العالم, اكتشف حسين أن المرأة ماكانت أم الأولاد بل خالتهم.

كان قد أخذ صورة للموت في كامل خدعته. فكل عبثية الحرب كانت تختصر في صورة لامرأة وجدت مصادفة حيث عدسة المصور, وأطفال وجدوا مصادفة حيث براثن الموت.



الموت, كما الحب, فيه كثير من التفاصيل العبثية. كلاهما خدعة المصادفات المتقنة.

أما الأكثر غرابة فكون تلك المرأة , التي لم تقم دعوى ضد القتلة, ولا طالبت الدولة بملاحقة الجزارين الذين نحروا الأجساد الصغيرة لأقاربها السبعة, جاء من يقنعها بأن ترفع دعوى على المصور الذي صنع "مجده" وثراءه بفجيعتها, عندما اكتشفت أن للصورة حقوقا في الغرب لا يملكها صاحبها في العالم العربي. فتطوعت جمعيات لرفع الدعاوى على المجلات العالمية الكبرى التي نشرت الصورة, بذريعة الدفاع عن حياء الجزائري وهو ينتحب بعد مرور الموت!

لا أصعب على البعض من أن يرى جزائريا آخر ينجح. فالنجاح أكبر جريمة يمكن أن ترتكبها في حقه. ولذا قد يغفر للقتلة جرائمهم, لكنه لن يغفر لك نجاحاتك.

وكلما , بحكم المهنة أو بحكم الجوار, ازدادت قرابته منك, ازدادت أسباب حقده عليك, لأنه لا يفهم كيف وأنت مثله في كل شيء, تنجح حيث أخفق هو.

جارك الذي لعبت وتربيت معه منذ الطفولة, لو غرقت لجازف بحياته لإنقاذك من الغرق. لكنك لو نجحت في البكالوريا, ورسب فيها, وستذهب إلى الجامعة, ويبقى هو مستندا إلى حائط الإخفاق. وذات يوم , ستخرج من مسدسه الرصاصة سترديك قتيلا مكفنا بنجاحاتك.



عندما ظهر خبر نيلي الجائزة, أسفل الصفحة الأولى من الجريدة الأكثر انتشارا, تحت عنوان" جثة كلب جزائري تحصل على جائزة الصورة في فرنسا", وتلاه في الغد مقال آخر في جريدة بالفرنسية عنوانه" فرنسا تفضل تكريم كلاب الجزائر", أدركت أن ثمة مكيدة تتدبر, وأن الأمر يتجاوز مصادفة الاتفاق في وجهة نظر.

كانت لعنة النجاح قد حلت بي, وانتهى الأمر.

لكن, كان لا بد أن يمر بعض الوقت, لأكتشف أن خلف ذلك الكم من الحقد والتجني جهد "صديق". كان جاري في قسنطينة وتوسطت له لينتقل إلى العمل في العاصمة, في الجريدة نفسها التي أعمل فيها, فوفر علي بكيده كل طعنات الأعداء, وجعلني أرى في جثة ذلك الكلب من الوفاء ما يغني عن إخلاص الأصدقاء, بعدما قدمت له من الخدمات ما يكفي لأجعل منه عدوا.



غير أن الموضوع عاد بعد ذلك ليشغلني في طرحه الآخر:

تراهم منحوا الجائزة لصورة ذلك الطفل؟ أم لجثة ذلك الكلب؟

وماذا؟ وقد صدرنا إلى العالم مذابحنا على مدى سنوات, وتم إتلاف الحياة الشعورية لأناس أكثر من جثثنا, بعد أن أصبحت في ندرتها أكثر وقعا على أنفسهم من جثة الإنسان؟

أليست كارثة , لو أن ضمير الإنسان المعاصر أصبح حقا يستيقظ عندما يرى جثة كلب يذكره بكلبه, ولا يبدو مهتما بجثة إنسان آخر لا يرى شبها به, ولا قرابة معه, لأنه من عالم يراه مختلفا.. ومتخلفا عن عالمه. عالم جثث تتقاتل.

شغلتني تلك الأسئلة, حد قراري العودة إلى تلك القرية, بحثا عن جواب في تفاصيل ذلك الموت المركب.

....*

ذات صباح , قصدت رفقة زميل تلك القرية. احتطنا طبعا لمفاجآت الطريق, بعدم أخذنا بطاقاتنا المهنية معنا فيما لو وقعنا في قبضة حاجز أمني مزور, ينصبه الإرهابيون لاصطياد من يضطر لسلوك تلك الطرقات بالسيارة, ممن يعملون في " دولة الطاغوت" الكافرة, أي باختصار, أي أحد يملك بطاقة عليها ختم رسمي, ولو كان يعمل زبالا في البلدية, أو أي مخلوق لا تروق له هيئته, فيذبحونه إن لم تكن لهم حاجة به, أو يصطحبونه إلى مخابئهم إن كان ممن يحتاجون إلى خدماته.

كانت ظاهرة الحواجز المزورة عمت وانتشرت, وأصبحت مشابهة تماما لحواجز رجال الأمن الحقيقيين , الذين سطا الإرهابيون على بزاتهم العسكرية وأسلحتهم, مما أوقع الناس في بلبلة وحيرة. فان هم اطمأنوا إلى حاجز, وأظهروا هوياتهم الحقيقية, قد يفاجأون به مزورا ويقتلون , كذلك العجوز الذي استبشر خيرا بحاجز أوقفه, وقال للعسكريين بمودة:

- واش.. الكلاب ما همش هنا اليوم؟

فرد عليه أحدهم وهو يطلق عليه النار :

- إحنا هم الكلاب!

وان هم لم يحملوا أوراقهم الثبوتية خشية وقوعهم في قبضة حاجز مزور, وكان الحاجز لرجال أمن حقيقيين, اتهموا بأنهم إرهابيون, وعوملوا على هذا الأساس, بعد أن أصبح الإرهابيون أيضا يتنقلون بدون أوراق ثبوتية, مدعين أنهم موظفو دولة.. أو مجندون في الخدمة العسكرية.

وهكذا كان الناس, حفاظا على سلامتهم, يتنقلون بلا هوية في جيوبهم, ولا بطاقة عمل ولا أوراق ثبوتية في حوزتهم, ولا مفكرة تشي بمواعيدهم وأسماء رفاقهم فتفضح مهنتهم.



كان وصولي إلى تلك القرية بسلام, وبدون حادث يستحق الذكر, إنجازا تفاءلت به, لولا أنني لم أجد شيئا مما كنت أبحث عنه هناك.

كانت قلوب الناس موصدة, كبيوت موتاهم.

وكنت هناك تائها, في مهب الأسئلة: كيف أستدل على ذلك البيت, والبيوت جميعها متشابهة في بؤسها؟

كيف أتعرف على ذلك الجدار الذي كان يستند إليه الطفل , وقد غسلوا الجدران خوفا من ثرثرتها, في محاولة لغسل ذاكرة القرية من دم أبنائها؟

ومن أسأل عن ذلك الطفل, والأجوبة متناقضة في اقتضابها؟ البعض يقول إن جمعية لرعاية اليتامى تكفلت به. وآخر يقول إن أحد أقاربه حضر واصطحبه إلى قرية أخرى. وآخر يجزم أن الطفل اختفى ملتاعا, بعد أن رآهم يحملون جثة الكلب ويدفنونها في حقل بعيد. وآخر لم يسمع بوجود هذا الطفل. أو لعله لا يريد أن يسمع بوجودي, ولا صبر له على فضولي.

الصدمة تجعلنا نفقد دائما شيئا متأخرا, شيئا يغرقنا في الصمت. لاأحد يثرثر هنا. حتى الجدران التي كانت تهذي بالقتلة, أصابها الخرس, مذ طليت بماء الكلس.



أحزنني أن القرويين الذين كانوا يحتفون بالغرباء أصبحوا يخافونهم. والذين كانوا يتحدثون إليهم, ويتحلقون حولهم في السبعينات أصبحوا يقفون ببلاهة ليتفرجوا عليهم, وكأنهم قادمون إليهم من عالم آخر, حتى انك لا تدري بماذا تكلمهم. لكأن لغتهم ما عادت لغتك, بل هي لغة اخترعها لهم القهر والفقر والحذر. لغة المذهول من أمره مذ اكتشف قدره.

التضاريس هي التي تختار قدرك, عندما في زمن الوحوش البشرية تضعك الجغرافية عند أقدام الجبال, وعلى مشارف الغابات والأدغال. أنت حتما على مرمى قدر من حتفك.

في عزلتهم عن العالم,أصبحت لسكان تلك القرى النائية ملامح واحدة, يدفنون فيها في اليوم ذاته, اثر غارة ليلية تختفي بعدها من الوجود قرية بأكملها.



انه موت, في عبثيته,مستنسخ من حياتهم الرتيبة , التي يتناولون فيها كل يوم وجبة واحدة من الطبق الواحد نفسه لكل أفراد العائلة , ويرتادون مقهى واحدا, يدخن فيه الكبار والصغار السجائر الرديئة نفسها المصنوعة محليا من العرعار الجبلي, وعندما يمرضون يذهبون إلى مستوصف ( الدشرة), حيث الطبيب الواحد , والدواء الواحد لكل الأمراض.

وكل جمعة كانوا يلتقون في المسجد الوحيد ليصلوا ويتضرعوا للإله الواحد. حتى جاءهم القتلة فأفسدوا عليهم وحدانيتهم وقتلوهم باسم رب آخر.

لكأنهم منذ أجيال يكررون الحياة ذاتها, ويموتون حربا بعد أخرى نيابة عن الآخرين, لوجودهم في المكان الخطأ نفسه.

لكأنهم جاهدوا ضد فرنسا ودفعوا أكبر ضريبة في قسمة الاستشهاد, فقط لتكون لهم بلدية كتب عليها شعار" من الشعب والى الشعب" يرفرف عليها علم جزائري, وتتكفل بتوفير قبر لجثثهم المنكل بها بأيد جزائرية. تتركهم خلفك صامدين حتى الموت المقبل, في أكواخهم الحجرية البائسة مع مواشيهم الهزيلة.

هؤلاء الذين لا تكاد تشبههم في شيء, لا صور لأسلافهم وأجدادهم تغطي جدران أكواخهم كما في بيتك, لأنهم منحدرون من سلالة التراب. تود لو ضممت رائحة عرقهم إلى صدرك, لو صافحت بحرارة أيديهم الخشنة المشققة. ولكنهم لا يمدون لك يدا. وحده الموت يمد لك لسانه حيثما وليت وجهك.



أثناء مغادرتي, انتابني حزن لا حد له. فقد فاجأني منظر موجع لغابة كانت على مشارف تلك القرية, وتم بعد زيارتي الأخيرة حرقها حرقا تاما من قبل السلطات , لإجبار الإرهابيين على مغادرتها, بذريعة حماية المواطنين من القتلة.

في كل حرب أثناء تصفية حساب بين جيلين من البشر, يموت جيل من الأشجار, في معارك يتجاوز منطقها فهم الغابات.

"من يقتل من؟" مذهولا يسأل الشجر. ولا وقت لأحد كي يجيب جبلا أصبح أصلع, مرة لأن فرنسا أحرقت أشجاره حرقا تاما كي لا تترك للمجاهدين من تقية, ومرة لأن الدولة الجزائرية قصفته قصفا جويا شاملا حتى لا تترك للإرهابيين من ملاذ.

باستطاعتنا أن نبكي: حتى الأشجار لم يعد بإمكانها أن تموت واقفة.

ماذا يستطيع الشجر أن يفعل ضد وطن يضمر حريقا لكل من ينتسب إليه ؟

وبإمكان البحر أن يضحك: لم يعد العدو يأتينا في البوارج. إنه يولد بيننا في أدغال الكراهية.



لا أدري لماذا أصابني منظر الأشجار المحروقة على مد البصر, بتلك الكآبة التي تصيبك لحظة تأبين أحلامك.

لكأن شيئا مني مات باغتيال تلك الأشجار. أعادتني جثثها المتفحمة إلى زمن جميل قضى فيه آلاف الشباب من جيلي خدمتهم العسكرية في بناء " السد الأخضر".

سنتان من أعمار الكثيرين ذهبتا في زرع الأشجار لحماية الجزائر من التصحر. كان الشعار الذي يطاردك في كل مكان آنذاك: "الجزائري يتقدم والصحراء تتراجع".

أكان كل ذلك نكتة؟!

مشتعلين كنا بزمن النفط الأول. وكانت لنا أحلام رمال ذهبية, تسربت من أصابع إلى جيوب الذين كانوا يبتلعون البلاد ويتقدمون أسرع من لهاث الصحراء.

يا لسراب الشعارات! إنها خدعة التائه بين كثبان وطن من الرمال المتحركة, لا تعول على وتد يدق فيه, ولا على واحة تلوح منه!
رد مع اقتباس