عرض مشاركة واحدة
  #11  
قديم 05-27-2010, 12:20 AM
الصورة الرمزية مُنتهى آلرقـه
مُنتهى آلرقـه غير متواجد حالياً
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: الأمآكن الي مريت إنت بيهآ .,,
المشاركات: 1,259
مُنتهى آلرقـه is on a distinguished road
افتراضي

الفصل الرابع



برغم درايتي بعدم حضوره, ذهبت لحضور افتتاح معرضه الفردي, فقد كان في الأمر ما يغريني بإستهلاك احتياطي الحزن الذي أحتفظ به لحدث كهذا.

لا أظن مرضه هو الذي أفسد عليّ لقاءنا الأول. الأمر لا يعدو احتفاظ الرسام بحقه في أن يخلف موعداً, حتى لو كان حفل زفاف لوحاته.

فرانسواز قالت أنه يكره حضور يوم افتتاح معرض له, لأنه بضوضائه وأضوائه يوم للغرباء. ما عاد له من صبر على ملاطفة ومسايرة من يحرصون على حضور شعائر الافتتاح, أكثر من حرصهم على تأمل أعمال أخذ بعضها أعواماً من عمر الرسام. بل أنه حدث في أحد معارضه, أن طلب منها أن تتولى مع إدارة الرواق أمر تعليق اللوحات واختيار أماكنها على الجدران, لأنه يكره أن يعلق لوحاته, حتى يمكنه زيارة نفسه بعد ذلك كغريب.

هو الهارب الأبدي, لا ملاذ له سوى البياض.

كان له ما أراد. أيكون تمارض كي يجد ذريعةً للإنسحاب المتعالي.. فسقط في براثن المرض الحقيقي؟



في غياب الرسام, كل شيء يأخذ لونه الأول. تخفت البهجة المظللة لفراشات الضوء وأناس إمتهنوا طقوس الإفتتاحات. ينتابك شعور بالفقدان, بإفتقاد شيء لم تمتلكه بعد. يجتاحك الأسى من أجل رجل لن تراه, يحجبك عنه حضوره في غيابه المريع.. غيابه الرائع.

رجل ستدرك لاحقاً, أنه يكره أن يساء فهم حضوره, أن يساء تفسير كلامه. ذلك أن " الرساميين لا يجيدون فن الكلام. إنهم موسيقيون صامتون كل الوقت".

وهو هنا, كبيانو أسود مركون مغلقاً على صمته, في صالة تضج بلوحاته, ازدحمت بغيابه الصاخب, مبعثراً, متناثراً, متدفقاً على الجدران, كغيوم نفسه المنهطلة على الزوار.

لا تملك إلا أن تتعاطف معه, وهو يواجه الخسائر بفرشاة. ذلك أن هذا المعرض في فن بعثرة الحزن على الجسور والأبواب التي تصهل بها اللوحات, ليس سوى إعادة اعتبار للخسارات الجميلة.

عندما غادرت ذلك المعرض , فكرة واحدة كانت تزداد رسوخاً داخلي: أن أطارد طيف هذا الرجل حتى بيت فرانسواز, كي أواصل تباعاً لملمة سره, هو الذي يتقن أيضاً فن بعثرة الغياب.

....*

تماماً, كما لو كنت بطلاً في رواية, غادرت الفندق الصغير الذي كنت أقيم فيه منذ ما يقارب الشهر, وأعددت حقيبتي لسفر مفاجئ نحو بيت كنت أظنه ليس موجوداً إلا في كتاب!

متعاقد أنا مع الجسور, مع مدن يشطرها جسر, مع نساء حيث أحل يكنّ على أهبة عبور.

بذرائع العشاق, أذهب على خيول الشك الهزيلة, صوب بيت هو بيته. أقيم مستوطنة غير شرعية, فوق ذاكرة الآخرين, حيث التقى هذا الرسام حتماً مع تلك الكاتبة.



كيف ترصد ذبذبات بيت تدخله كما تدخل معتقلاً للكآبة الجميلة.

تفاجئك ألفة الأمكنة, فتستأنف حياة بدأتها في كتاب. كأنك موجود لاستئناف حياة الآخرين.

تدخله كبطل في رواية. تفتحه كما تفتح كتاباً مكتوباً على طريقة برايل, متلمساً كل شيء فيه, لتتأكد من أن الأشياء حقيقية, أو بالأحرى لتتأكد أنك تعيش لحظة حقيقية, ولست هنا لمواصلة التماهي مع بطل وهمي. أشياء تومي لك أنك تعرفها وهي ليست كذلك . لحظات تتوهم أنك عشتها وهي ليست كذلك.

وكنت تظن أن الحياة تلفقك كتاباً, فإذا بكتاب يلفق لك حياة. فأيهما فيك الأحزن: القارئ الذي انطلت عليه خدعة الرواية؟ أم العاشق الذي انطلت عليه خديعة مؤلفتها؟

ولماذا أنت سعيد إذن؟ ما دمت بفرح غريب تفعل الأشياء الأكثر ألماً, تعاشر جثة حب, تضاجع رمم الأشياء الفاضحة, باحثاً في التفاصيل المهملة عما يشي بخيانة من أحببت.

أهي معابثة للذاكرة؟ أم تذاكٍ على الأدب؟ أم .. حاجتك أن تغار؟ كحاجتك إلى النوم على أسرة علقت بشراشفها رائحة رجال سبقوك, كحاجتك إلى الأغطية الخفيفة, للهاث امرأة استعادت أنفاسها على صدر غيرك, كحاجتك إلى البكاء على وسادة تنام عليها وحيداً, وكانت وسادة لرأسين.



لا أسوأ من غيرة عاجزة. غيرة متأخرة لا تستطيع حيالها شيئاً.



لا أدري متى أصبت بكآبة المخدوعين, وقررت التوقف عن التفتيش في ذلك البيت عن شيء, بعد أن حاولت كثيراً, على طريقة "شارلوك هولمز" أن أفك شيفرة ذلك الكتاب, مقارناً تفاصيله بموجودات الكتاب.

بحثت طويلاً عن شفاء الأشياء كي أقيم معها حواراً استنطاقياً بحثاً عن احتمالات لقاء, عن احتمالات خلاف, عن متع قد تكون اختلست في مكان ما.

كما أمام " العلبة السوداء" لطائرة سقطت, كنت أريد أن أعرف آخر كلمة قالها العشاق قبل حدوث الكارثة. من أي علو هوى ذلك الحب؟ في أي مكان بالذات؟ في أي غرفة تبعثرت شظايا المحبين؟ وهل نجا من تلك الكارثة العشقية غير ذلك الكتاب؟



فرانسواز وضعتني, بكثير من الاحتفاء, في الغرفة المجاورة لغرفتها, موضحة أنها الغرفة التي كان يشغلها زيان كمرسم. ثم أضافت بلهجة مازحة:

- أنت محظوظ: بإمكانك أن تفرد أشياءك. قل شهرين كانت اللوحات في كل مكان , حتى هذا السرير لم يكن صالحاً للاستعمال.

سألتها متعجباً:

- وماذا فعلتما بها؟

- شارك زيان ببعضها في المعرض الجماعي الخيري, ويعرض ما بقي في حوزته من لوحات في معرضه الفردي الحالي الذي يذهب نصف ريعه للجمعية الخيرية نفسها. حاولت عبثاً إقناعه بإبقاء بعضها. إنه دائماً متطرف. أحياناً كان يرفض لسنوات بيع لوحة واحدة, وهذه المرة رفض أن يبقي على واحدة منها. تصور.. لم تبق سوى اللوحات المعلقة على الجدران, ولو لم يكن أهداني إياها لعرضها للبيع. لعله المرض. أظنه أراد أن يتخلص منها وهو على قيد الحياة, ووجد لوحة لمن لا يعنيه سوى أن يعلقها على حائط زهوه. كان يردد قول رسام آخر " أنت لا تفقد لوحة عندما تبيعها بل عندما يمتلكها من لن يعلقها على جدران قلبه بل على حائط بيته قصد أن يراها الآخرون".

ربما خوفه من أن يقع في يد هؤلاء, هو الذي جعله يعرضها جميعها للبيع, لأنه واثق من أن الذين سيشترون لوحاته, أو اللوحات المعروضة لكل هؤلاء الرسامين الجزائريين,المعروفين منهم والجدد, هم حتماً أناس بقلب كبير رغم الإمكانات القليلة لبعضهم.



كانت فرانسواز تحتفظ في غرفة نومها باللوحة التي رسمها لها زيان سنة 1987 عندما تعرف عليها أول مرة كموديل في معهد الفنون الجميلة.

على عريها, كانت الرسمة لا تخلو من مسحة حياء تعود حتماً لريشة زيان, لا لامرأة كانت تحترف التعري, وتغطي جدران غرفة نومها بأكثر من لوحة تحمل تواقيع فنانين آخرين.

بدت لي فرانسواز امرأة لا يملها رسام. لكأنها أنثى لكل فرشاة. لفرط اختلاف شخصيتها بين لوحة وأخرى, كنت تشعر معها وكأنك تسلم نفسك إلى قبيلة من النساء.

رغم ذلك لم يكن في الأمر ما يغريبني, ولا كانت لي رغبة أن أدخل في تحد مع الرجال الذين سبقوني إليها. فقد كنت على جوعي الجسدي, رجلاً انتقائياً في حرماني كما في متعتي, أنا المولع بانحسار الثوب على جسد متوهم, ما وجدت في جسدها المكشوف مكمن فتنتي.

كنت أريد امرأة كـ " فينوس" في انزلاق نصف ثوبها. أكسو نصفها, أو أعري نصفها الآخر حسب رغبتي. امرأة نصفها طاهر ونصفها عاهر, أتكفل بإصلاح أو إفساد أحد نصفيها. فبكل نصف فيها كنت أقيس رجولتي.



فرانسواز بهذا المقياس, كانت اختباراً سيئاً للرجولة. كانت امرأة بفصلين يعاشر أحدهما الآخر أمامك: ربيع شعرها المحمر, وخريف شفتيها الشاحبتين. وكانت مشكلتي الأولى ثغرها: كيف أضاجع امرأة لا تغريني شفتاها الرفيعتان بتقبيلهما؟

كنت أجد شجاعتي في مواجهة شفتيها بالتفكير في زيان, الذي حتماً سبقني إلى ذلك. أخاله مثلي كان يعاشر فرانسواز, مستحضراً حياة. فهل اكتشف قبلي أن زيف القبلة أكثر بؤساً من زيف المضاجعة؟!

حتماً, كان السرير في ذلك الموعد الأول مزدحماً بأشباح من سبقوني إليه, ووحدي كنت أشعر بذلك محاولاً استنطاق ذاكرته.

أسرّة تراكمت فيها الخطايا, تتوقع منها خرق قاعدة الكتمان. أحقاً تريد لذلك " المخدع" أن يكسر قانون الصمت.. وينطق؟

صمت الأسرّة إحدى نعم الله علينا, ما دمنا, حيث حللنا, جميعنا عابري سرير.

أدري ارتباك جسدين يلتقيان لأول مرة, ولم يبتكرا لغتهما المشتركة بعد. لكن كان واضحاً أننا ما كنا نملك الأبجدية نفسها للتحاور.

كنت أكره امرأة تصرخ لحظة الحب. ففي كل صراخ مراوغة لا تخلو من نوايا الغش النسائي. كنت لا أعرف للمتعة إلا احتمالين: أن تبكي امرأة, أو يغمى عليها. فلا متعة دون بلوغ وعي الإغماء. كطائر محلق فارد جناحيه ولا يسمع لتحليقه خفقاً. المتعة حالة غيبوبة شاهقة الصمت.

كانت فرانسواز لا تعرف صمت كائنين لحظة توحد. كانت تموء كقطة, تنتفض كسمكة, تتلوى كأفعى, وكلبوءة تختبر ذلك العصيان الشرس في مواجهة الذكورة. كانت كل إناث الكائنات. وكنت رجلاً لا يدري كيف يتدبر لجاماً لتلك المهرة الجامحة.



كان للحب مع فرانسواز مذاق الفاكهة المجففة. وكنت أحتاج فجأة إلى وحدتي, حاجة رجل مهموم إلى تدخين سيجارة في الفناء.

انتهى الحب. وها أنا أرتعد عارياً كجذع شجرة جرداء.

لا أكثر كآبة من فعل حب لا حب فيه, بعده تعتريك رغبة ملحة في البكاء. إنها خيانتك الأولى لامرأة قد تكون خانتك منذ ذلك الحين كثيراً. وأنت لست حزيناً من أجلها.. بل من أجلك. بعد تلك المتعة, تشعر فجأة بالخواء, ينقصك شيء ما, لا تدري ما هو.

كنت تظن أنك بنزوتك الأولى تلك, ستمحو, كما بإسفنجة, آثار ما علق بك من زرقة الألم. ولكن, كما لو كنت تمرر إسفنجة لتنظيف سبورة من الطباشير, إذا بك تزيد اللوح ضبابية وتلوثاً.

أليست هي التي قالت مرة أثناء حديثها عن معاشرة زوجها مكرهة:" لا بد أن توضع على أبواب غرف النوم " ممنوع التلويث" كما توضع في بعض الأماكن شارات لمنع التدخين.. ذلك أننا نلوث دائماً بمن لا نحب".

لماذا مارست الحب إذن؟ ولماذا كنت على عجل؟ ألانك لفرط ما عاشرت جسدك مكتفيا بمتعته السرية, لم تعد تعرف التعامل مع جسد غيره؟



أذكر ذلك الصديق الذي قضى في سجن عربي ستة عشر عاماً بتهمة الانتماء إلى حزب محظور, تزوج في الأعوام الأخيرة, من محامية أحبته وانتظرته طويلاً. كم من الأعوام قضيا يمنيان النفس بلقاء حميمي جميل, لا يكون فيه للحارس حق التلصص على وشوشة متعتهما!

وذات يوم أطلق سراح الرجل. هكذا , فجأة, ذات عيد قرروا أن يهدوه الحرية. ألقوا به أمام السجن مع صرة تضم بؤس متاعه. وما كان يدري أنه في تلك الأقبية الرطبة قد فقد وإلى الأبد عنفوان فحولته, إلا عندما احتضن بولع السجين العاشق, تلك المرأة التي حلم بها طويلاً.

أثناء تحسسه لجسد الحرية, ارتطم بعنة عبوديته, مكتشفاً أنه ما عاد قادراً على معاشرة أحلامٍ لا تمت إلى جسده بصلة!

منذ مدة سمعت بخبر انفصالهما, بعد أن أخفقت الحياة في ترميم ما ألحقته المعتقلات العربية من عطب بحبهما.



أثناء هدر عمرك في الوفاء, عليك أن تتوقع أن يغدر بك الجسد, وأنت تتنكر لك أعضاؤه. فوفاؤك لجسد آخر ما هو إلا خيانة فاضحة لجسدك.

بغروب آخر يوم في خريف القلب, ندخل في سباتٍ طويل لشتاءٍ عاطفي, مقتاتين بدسم الذكرى ومجزون الأمل الذي ما فتئنا كحيوانات القطب الشمالي نجمعه تحسباً لمواسم البؤس الجليدية.

ذات جليد.. لن يسعفك اختباؤك تحت الفرو السميك للأمنيات.

رويداً.. يضمحل قلبك العاطل عن الحب. تتقلص فحولتك العاطلة من التمتع والإمتاع, وإذا كل عضو فيك لم تستعمله, قد اضمحل.

تدري أنك مدين في الماضي للحب وحده بإنجازاتك الفحولية الخارقة, لكن زمن العشق ولى.

خيباتك السابقة علمتك الاحتراس من حب يؤسس نفسه على كلمة " إلى الأبد". حب بعد آخر, مات وهمك بحب حد الموت, حب حتى الموت.

كل مأساتك الآن تدور حول هذا الاكتشاف!
رد مع اقتباس