عرض مشاركة واحدة
  #21  
قديم 05-27-2010, 12:29 AM
الصورة الرمزية مُنتهى آلرقـه
مُنتهى آلرقـه غير متواجد حالياً
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: الأمآكن الي مريت إنت بيهآ .,,
المشاركات: 1,259
مُنتهى آلرقـه is on a distinguished road
افتراضي

ما كدت أعود إلى البيت, حتى اتصلت بمراد متذرعاً بالاطمئنان على وصول أم ناصر وسلامتها.

قال:

- وصلت ظهراً صحبة أخته, وناصر سيبقى لقضاء الأمسية معهما.

تنفست الصعداء. سألني بعد ذلك:

- متى نراك؟

وجدتني فجأة على عجل. قلت له شبه معتذر:

- سأكون مشغولاً هذه الأيام.

ثم أضفت:

- الحالة مخلّطة شوية.

ودعني مراد مازحاً أو ناصحاً وهو يقول:

- " خلها تصفى".

طبعاً ما كان يدري أنها كانت " مخلّطة بكراع كلب". ولا مجال لأزيد عليها خلطة أخرى!



كان السؤال الأول: كيف بإمكاني بعد الآن وبالقدر الأدنى من الأضرار ومن الشبهات, أن أدير علاقات متداخلة متشابكة مع بعضها البعض, خلقتها مصادفة تواجدنا جميعاً في باريس, حتى أصبحت تحتاج إلى شرطي القدر لتفادي حوادث سير المصادفات!

فبقدر إصراري على رؤية حياة, كنت لا أريد أن أفقد احترام ناصر, ولا أن أثير شكوك زيان أو أسبب ألمه, ولا أن أخسر علاقة جميلة تجمعني بفرانسواز.

ثمة أيضاً مصيبة الدخول في مدار حب محفوف بالمخاطر والمجازفات, مع امرأة تلاحقها دائماً فتنة الشائعات, وتسبقها حيث حلت عيون المخبرين وأجهزة التنصت. وأنت دوماً خائف عليها منها.. خائف منها عليك!

أن تحب امرأة يحكم زوجها بلداً, بماله ومخبريه, يا لغواياتك الجميلة المكلفة.. يا لجنونك يا رجل!

لم أستطع ليلتها معاشرة فرانسواز. كان جسدي سبقني وراح يبحث عنها في عناوين الفنادق. كيف لي أن أنام وأنا بكامل ترقبي, كأني ما خلعت يوماً انتظارها. أكنت أفتقدها لأقاصص نفسي باشتياقها بعد أن عذبني الامتلاك المؤقت لها؟

وأنا الذي أعلم أنها ما عادت لتبقى, وأنني لن أمتلك منها هذه المرة أيضاً إلا غبار السفر. لماذا تراني على عجل؟

....*

استيقظت في الصباح بمزاج جميل.

قررت أن أذيب الفرحة في فنجان قهوة, أن أبدأ النهار بإقامة علاقة جميلة وكسولة مع الحياة, أن أفك ربطة عنق الوقت, وأترك قميصي مفتوحاً لرياح المصادفة.

قصدت المعرض في حدود الثانية عشرة, واثقاً أنها لن تغادر الفندق باكراً, نظراً لعادتها الصباحية الكسولة.

منت أشك أن تحضر يومها.كان اليوم الأول لوجودها في باريس, ولم يكن من الطبيعي أن تأتي إلى الرواق لمشاهدة معرض خالد, حال خروجها إلى المدينة. لكن, لم أكن أريد أن أفوت أي احتمال لمرورها.

كنت مستعداً أن أجلس طويلاً على كرسي الوقت, في مخادعة الزمن خشية انفراط حبات مسبحة الصبر. لا أرتجي ثواباً غير لهفة القبلة الأولى.

أحب ذلك التبذير الجميل في الحب. بي ولع بكل أنواع الهدر الجنوني, عندما يتعلق الأمر بغاية عاطفية.

وكنت قبل كل هذا رجلاً طاعناً في الصبر, بحكم مهنتي.



أوحدي كنت أنتظرها تائهاً بين تلك اللوحات؟ خطر لي أننا كنا ننتظرها معاً.. أنا ولوحاته. أنا وهو. وهذه أيضاً مصادفة عجيبة أخرى.

كأنما الحياة تفكك نسيج قصته وتعيد نسجها منن جديد باستبداله بي في كل موقف. هكذا حدثت الأشياء في تلك الرواية التي أحفظها عن ظهر قلب.. عن ظهر مقلب!

هكذا كان ينتظرها هو نفسه في بداية "ذاكرة الجسد", عساها تأتي وتزور معرضه ثانية بمفردها.

بالترقب نفسه, بنفس الإصرار واليأس والأمل, كان يروح ويجيء داخل هذه القاعة التي قدّم فيها أول معرض له, والتي تشهد اليوم معرضه الأخير. كان حسب قوله رجلاً "وفياً للأمكنة.. في أزمنة الخيانة".

منذ ذلك الحين, كم مر على هذا المعرض من لوحات قبل أن تعود " حنين" لتأخذ مكانها على جدار, كما لو أ، الزمن بالنسبة لها ظل معلقاً كما الجسر المرسوم عليها.

سعادتي هذا الصباح تعود أيضاً لأنني اشتريتها بعد أن عقدت تلك الصفقة المجنونة مع زيان.أدرك دون أن أشرح له أكثر, أنه لا يملك سواي وريثاً لها.

هي لي إذن.. وأنا في هذه القاعة ملك متوج بها, أختبر فرحة أ، أفلس, مقابل قطعة قماش مصلوبة على جدار أسميتها قسنطينة!



كان الوقت يمر رتيباً.

مرت ثلاث ساعات على وجودي في القاعة. قررت أن أقصد المقهى على الرصيف المقابل لأحتسي قهوة.

اخترت طاولة بمحاذاة واجهة زجاجية. حتى ألمحها في حالة قدومها. لكنني بعد بعض الوقت فوجئت بمراد يدخل الرواق.

حمدت الله لأنني ما كنت هناك. فربما ظل معي طوال الوقت وأفسد علي لقائي بها لو جاءت.

عجبت لمروره, فما كان من تقاليده زيارة المعارض أكثر من مرة, ولا كان مهتماً بلوحات زيان.. أو بصاحبها.

ولو أطال البقاء لاعتقدت أنه غير عادته. لكنه بدا كما لو أنه جاء لسبب آخر, أو لملاقاة شخص ما. ربما ما كان سوى فرانسواز.

اقتنعت بذلك وأنا أراها تودعه عند الباب بحميمية, وهو يطبع قبلة على خدها, بينما ذراعه تخاصرها بمودة تتجاوز البراءة.

هي حتماً حسبتني غادرت الرواق إلى البيت. وهو ما توقع أن أكون هنا قبالة خيانته.

عبرتني سحابة كآبة, وأدركت سر سؤاله الدائم لي, متى أنوي العودة إلى الجزائر, بذريعة أنه يريد إرسال شيء معي بعدما تأكد أنني لا أملك سوى تأشيرة سياحية, وأنني أقيم في بيتها. أما هو فلم يكن يريد الإقامة عندها..بقدر ما كان يرى بن فخذيها أوراق إقامته في فرنسا وربما.. مشروع جواز سفر " أحمر"!



بلعت كوب الماء على عجل.. ذلك الذي أحضره لي النادل مجاناً مع القهوة.. كما ليساعدني على ابتلاع غصة.

غادرت المقهى بعد ذلك بدون أن أعود إلى الرواق كما كنت أنوي.

قصدت المترو عائداً إلى البيت. انشقت السماء فجأة بسيول من الأمطار كأنها تبكي نيابة عني. كنت دون مظلة.. أمشي متقدماً في وحل الأحاسيس الإنسانية.

عندما عادت فرانسواز في المساء, قالت بتذمر وهي تخلع معطفها:

- أتمنى ألا أجد هذا الطقس في انتظاري في ( نيس) .. يا إلهي كم كرهت المطر!

سألتها:

- متى تنوين السفر؟

- صباح الجمعة.. سأقضي هناك نهاية الأسبوع وأعود الإثنين صباحاً.

لم أقل شيئاً. مددتها فقط بصورة والدتها كما أعددت بروازها الزجاجي دون إطار.

قبلتني على خدي موشوشة:

- Oh merci.. elle est mieux ainsi.!

قلت أنا أعابث شعرها الأحمر:

- تدرين.. في الماضي كان حزني يعود لعجزي على جعل الرائحة ترى على الصورة. الآن لم أعد أحزن مذ طوّرت آلة تصويري.

قالت مصدقة:

- حقاً! كيف؟

أجبت متهكماً:

- الآن مثلاً.. بإمكانك ألا تتكلمي. ما أطبقت شفتيك عنه سألتقطه بعدسة في داخلي.

لم أتوقع منها أن تفهم, ولذا لم أعجب وهي تجيبني:

- أتكون اخترعت الصورة الفاضحة؟

- لا .. اخترعت فاجعة الصورة!



اشتقت فجأة إلى خالد. وحده كان سيفهم جملة على هذا القدر من وجع السخرية. فهو من اخترع قبلي " فاجعة اللوحة".. وهو من سبقني إلى تقاسم هذا البيت مع امرأة.. لا تتفجع سوى أمام النشرة الجوية!

سألتها بعد ذلك, إن كانت تفضل أن أقيم في مكان آخر أثناء غيابها.

قالت محتجة:

- أبداً.. كيف فكرت في شيء كهذا!

- في جميع الحالات.. سأعود بعد أسبوعين أو ثلاثة إلى الجزائر. وسأغادر الشقة حتماً قبل خروج زيان من المستشفى. لا أريد أن يعلم بإقامتي هنا.

أضفت:

- وبالمناسبة..أنوي شراء هاتف خلوي يمكنك أن تطلبينني عليه لأنني لا أرد على الهاتف كما تعلمين, خشية أن يكون زيان على الخط, فهو يعرف صوتي.

- فكرة جيدة.. في جميع الحالات, من يتصلون بي أثناء غيابي بإمكانهم أن يتركوا لي رسالة صوتية على الهاتف.



بعد ذلك, عندما تقاسمنا السرير نفسه للنوم, وجدتني عاجزاً عن ضمها بدون مشقة, أو تقبيل شفتيها الرفيعتين بدو استجداء بلاهة الحواس.

كان عزائي أن كل مساء: ملايين البيوت ينزل عليها الليل كما ينزل علينا, بذلك القدر من نفاق المعاشرة, وأن ملايين الناس غيري لا يدري كيف يهربون من وشاية الليل الفاضحة لاغترابهم الجسدي عن أقرب الناس إليهم.

تذكرت زوجتي التي إستطاعت أن تسرق مني طفلاً بفضل ذرائع فراش الزوجية.

ففي حوادث السرير, يحدث أن تصطدم بشخص ينام جوارك أو أن تلامس شيئاً منه وجد في متناول جسدك.

أثناء تسكعك في أزقة الأقدر, قد تتعثر بحب امرأة مرتكباً حادثاً عاطفياً للسير, ولكن امرأة أخرى هي التي تحبل منك إثر حادث سرير!

دوماً كان لي سوء ظن بالفرح, ارتياب من البهجة المضللة للعيد. فليس العيد سوى الاستعداد له, تماماً كعيد انتظاري إياها.

عندما غادرت البيت ظهراً متجهاً إلى الرواق. كانت المدينة مزدانة كما لتستخف بي.

أسريعاً جاءت نهاية السنة؟ أم هم التجار دوماً على عجل كي يبيعوك عيداً ليس عيدك. فنحن نصنع أعيادنا الحقيقية في غفلة من كل الأعياد.

أليست هي من كانت تقول إننا نحتاج إلى مدينة ثالثة ليست قسنطينة ولا الجزائر, لا تكون مدينتي, ولا مدينتها. مدينة خارج خارطة الخوف العربية, نلتقي فيها دون ذعر؟

هي ذي باريس, وحب ينتمي للشتاء, لبائع الكستناء المشوية, لليل ينزل على عجل, لمطر يظل يهطل, لواجهات مرشوشة برذاذ الثلج إليها.

لو أثلجت وهي هنا, يا إله الشتاء, لو تكوّم الثلج عند باب بيت انغلق علينا كي أختبر تلك العدوانية الجميلة للثلج, عندما يتساقط في الخارج ونكون معاً جوار مدفأة الأشواق.



لكنها لم تأتِ. والثلج واصل تساقطه داخلي, وأنا أنتظرها في الرواق مبعثراً بين ارتياب الاحتمالات, مدافعاً عن هشاشة الممكن بمزيد من الانتظار.

كانت لغيابها الرهيب المحرق, غيابها الشهي الصقيعي, امرأة جميل معها حتى أن تخلف موعداً.

عندما يئست من مجيئها, عاودتني الحاجة إلى لقاء زيان عساني أطمئن على أخباره وأتسقط أخبارها, داعياً الله كي لا يجمعني بها عنده تفادياً لمصادفة لن يخرج منها أحدنا سالماً.

كانت الساعة الرابعة بعد الظهر عندما قصدته.
رد مع اقتباس