عرض مشاركة واحدة
  #22  
قديم 05-27-2010, 12:30 AM
الصورة الرمزية مُنتهى آلرقـه
مُنتهى آلرقـه غير متواجد حالياً
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: الأمآكن الي مريت إنت بيهآ .,,
المشاركات: 1,259
مُنتهى آلرقـه is on a distinguished road
افتراضي

فاجأتني باقة ورد منتقاة بذوق راقٍ جوار طاولة سريره. كانت في الغرفة ذبذبات بهجة, خلقتها الورود الصفر والبنفسجية.


وجدته سعيداً. ربما سعادة المتكئ ضاحكاً على خرائبه.

بدا لي خفيفاً ومفلساً. لا تدري ما الذي سرق منه بالتحديد ليكون حزيناً ساخراً إلى ذلك الحد.

همّ بالنهوض لاستقبالي. لكنني طلبت منه ألا يغادر سريره. فوضع على الطاولة المجاورة كتاباً كان يقرأه. وقال وأنا أنحني لتقبيله:

- أهلاً.. توحشناك يا راجل.. وين راك غاطس؟

أجبت كمن يرد عنه شبهة السعادة التي يرى فيها المريض اعتداءً على حزنه:

- راني غاطس في المشاكل.. على بالك.

كان جواباً على الطريقة الجزائرية. يحمل كمّا من الشكوى والتذمر التي لست مضطراً لشرح أسبابها, ما دام الذي يستمع إليها " على بالو" بحكم أنه غارق حتماً في المشاكل نفسها.. لكونه جزائرياً!

وكما ليفهم مصدر مشاكلي فاجأني سائلاً:

- هل أنت متزوج؟

قلت ساخراً:

- أحياناً

- وأحياناً أخرى؟

- متشرد عاطفي.

أضفت ممازحاً كما لأطمئنه:

- لكنني رجل حذر.. ألزم جغرافيتي!

رد ضاحكاً:

- أنت تذكرني بصديق كان يحترف المغامرة المحسوبة, أي أنه ما كان مغامراً, ولا كان وفياً. كان يخاف الأمراض الشائعة, وكنت أقول له عندما يدعي الاستقامة " إن الوفاء المبني على الرعب الوبائي, كالسلام المبني على الرعب النووي, لا يعوّل عليه. فاختر صفك يا رجل.. ولا تحد عنه, كن خائناً بجدارة.. أو مخلصاً كما لو بك مس من وفاء!"

كانت تلك المرة الأولى التي سألني فيها عن حياتي الخاصة. أعطاني الحق في أن أطرح عليه السؤال نفسه. قلت:

- وهل أنت متزوج؟

رد ضاحكاً:

- لأنني أكره الخيانة رفضت الزواج. فالزواج الناجح يحتاج إلى شيء من الخيانة لإنقاذه. إنه مدين لها بدوامه, بقدر ما هي مدينة له بوجودها. فلا أكثر كآبة من إحساسك بامتلاك أحد.. أو بامتلاكه لك إلى الأبد.

أنا أرفض امتلاك شيء, فكيف أقبل بامتلاك شخص ومطالبته بالوفاء الأبدي لي بحكم ورقة ثبوتية. لا أظنني قادراً على أن أكون من رعاة الضجر الزوجي في شراشف النفاق.

أضاف بعد شيء من الصمت:

- تدري.. أجمل شيء في الحياة وفاء مغلف بالشهوة. أما الأتعس فشهوة مكفنة بالوفاء!

من أين له صفاء الذهن ليصل إلى حكمة كهذه, وهو جالس بين قوارير الأدوية ومصل الكلمات. ومتى خبرَ هذا؟ ومع من؟

كان لعينيه جمالية تعب مزمن. ولكنه كان يبدو غير حزين.

- أراك سعيداً اليوم.

رد ضاحكاً

- حقاً؟ وما جدوى أن تتعذب؟ لا تصدق أن العذاب يجعلك أقوى وأجمل, وحده النسيان يستطيع ذلك. عليك أن تلقي على الذاكرة تحية حذرة, فكل عذاباتك تأتي من التفاتك إلى نفسك.

عندما راح يسكب لنفسه كوب ماء, دققت في ذلك الكتاب الموجود على الطاولة المجاورة لسريره, كان كتاباً صغيراً ليس على غلافه ما يلفت النظر. عنوانه:

- Les jumeaux de Nedjma.

لكن فضولي لاكتشاف مطالعات رجل, ما رأيت كتاباً قبل اليوم على طاولته, جعلني أمد يدي تلقائياً لأتصفحه, غير متوقع المفاجأة التي كانت تنتظرني داخله.



لم يقل شيئاً وأنا آخذه عن الطاولة. بدا وكأنه فوجئ بتصرفي.

تأملت العنوان, ثم فتحت الكتاب تلقائياً على الصفحة الأولى, وإذ بي أمام إهداء بخطها!

كلمات لم أقرأها بعد أن أحسست أن نظراته تراقبني صمتاً. أحرجني كبرياء صمته. ربما كان يختبر قلة ذوقي أو وقاحتي في التجسس على سره الكبير.

اكتفيت بقراءة التاريخ المكتوب على الإهداء.

استنتجت أنها زارته هذا الصباح. وأدركت من أين جاءت باقة الورد الجميلة وعلبة الشوكولاطة الفاخرة جوار سريره. فهمت أيضاً ذكاء تلك الطرفة, عندما قال ليقنعني بفضائل الشوكولاطة مصراً على أن يضيفني منها:

- الشوكولاطة لا تعطيك نشوة وطاقة للإبداع فحسب, بل للذتها تساعدك على ابتلاع أي مذاق مر يرافقها, مسهلة عليك الموت لحظة تلقّيك رصاصة. حتى إن هامنغواي عندما كتب لزوجة أبيه طالباً منها أن تبعث ببندقية أبيه التي انتحر بها, أرسلتها إليه مرفوقة بعلبة شوكولاطة لعلمها أنه يريدها.. كي ينتحر!

يا لذكاء هذا الرجل وجمال تهكمه!

كما ليذهب بكلامنا منحىً بعيداً عن تلك المرأة, قال وهو يراني أعيد الكتاب إلى مكانه:

- إنه كتاب جميل. فيه تفاصيل مذهلة لم أكن أعرفها عن موت كاتب ياسين. سجنت معه في 8 ماي 1945 في سجن الكديا, عشت معه كل ولادة " نجمة", كنا جيلاً بحياة متشابهة, بخيبات عاطفية مدمرة, بأحلام وطنية أكبر من أعمارنا, بآباء لم نتعرف عليهم يوماً, بأمهات مجنونات من فرط خوفهن علينا. كنا نتشابه تقريباً جميعنا في كل شيء. ولم نعد نختلف بعد ذلك إلا في موتنا.



مد يده إلى جارور الطاولة الصغيرة الموجودة على يمينه. أخذ سيجارة لم يشعلها. ظل ممسكاً بها كما لو كان أشعلها. ثم قال:

- أنتمي إلى جيل النهايات الغريبة غير المتوقعة. عندما قرأت في هذا الكتاب تفاصيل موت كاتب ياسين في فرنسا التي تصادفت مع موت ابن عمه مصطفى كاتب, ثم كيف شيعت جنازته في الجزائر, فكرت في قول مالرو " لا يحدث للإنسان ما يستحقه, بل ما يشبهه".

موت ياسين كحياته, موت موجع ومشاغب ومسرحي ومعارض ومحرض وساخر.

تصور.. يوم مات ياسين في مدينة ( غرونوبل) في 29 أكتوبر 1989 حدث زلزال في الجزائر. ولكن نشرة الأخبار ذلك المساء كانت تتضمن فتوى بثتها الإذاعة الوطنية, أصدرها المفتي محمد الغزالي رئيس المجلس الإسلامي لجامعة قسنطينة, ومستشار الرئيس بن جديد آنذاك, يعلن فيها أن مثل هذا الرجل ليس أهلاً لأن يواريه تراب الجزائر, ويحرم بحكمها دفنه في مقبرة إسلامية. ولكن ياسين ظل حتى بعد موته يستخف بالفتاوى وبكل أنواع السلطات. حملت نعشه النساء كما الرجال. لأول مرة, رجل تحمل نعشه فرقة مسرحية بكاملها.

كانت نكتته الأخيرة أن تعطلت سيارة الـ " البيجو" 504 التي كانت تنقل جثمانه, لكثرة الممثلين الذين كانت تحملهم, مما جعل المشيعين يترجلون ويذهبون به إلى المقبرة على الأقدام وسط زمامير السيارات والزغاريد ونشيد الأممية الذي كانوا ينشدونه باللغة البربرية.

لم يستطع الإمام ولا الرسميون شيئاً لإسكات كاتب ياسين حياً ولا ميتاً. ولم يستطيعوا منع القدر أن يجعله يدفن في أول نوفمبر تاريخ اندلاع الثورة الجزائرية. كان أول من أدخل الفوضى والديمقراطية والزغاريد إلى المقابر كما أدخلها قبل ذلك إلى المعتقلات والسجون!

قلت متعجباً:

- إنه لموت طريف حقاً.. لم أسمع بهذه التفاصيل من قبل.

قال ساخراً:

- ليس هذا الطريف في حد ذاته, إنما تشكيلة الموت في غرابة أقداره كما عرفه جيلنا. تصور يا رجل: لي صديقان كلاهما من رجال التاريخ وكبار مجاهدي الثورة, أحدهما مات قهراً والآخر مات ضحكاً. هل تصدق هذا؟ أنت سمعت حتماً بعبد الحفيظ بوالصوف؟

- طبعاً.. كان مدير الاستخبارات العسكرية أثناء الثورة.

- أتدري كيف مات هذا الرجل الصلب المراس الذي اشتهر بغموضه وأوامره التي لا رحمة فيها في التصفيات الجسدية للأعداء كما للرفاق؟ توفي سنة 1980 إثر أزمة قلبية فاجأته وهو يضحك ضحكاً شديداً على نكتة سمعها من صديق عبر الهاتف!

كان قد انسحب من الحياة السياسية نهائياً بعد الاستقلال, رافضاً أي منصب قيادي وأصبح بإمكانه أن يموت ضاحكاً!

أليست نهايته أفضل من نهاية سليمان عميرات, رفيق سلاحه الذي مات بعد ذلك حزناً بسكتة قلبية أثناء معركة الفاتحة على جثمان محمد بوضياف, رفيق سلاحهما الآخر الذي سقط مغتالاً؟

لم ينج من هذه اللعنة حتى من مات من جيلنا شهيداً ميتة الأبطال. أورث نحس جيله إلى ذريته, كالشهيد البطل مصطفى بن بولعيد الذي اغتيل ابنه عبد الوهاب وهو في الخمسين من عمره في 22 آذار 1995 , نهار اغتيل أبوه على أيدي الفرنسيين قبل تسعة وثلاثين سنة, بعد أن نصب له الإرهابيون حاجزاً وهو في طريقه إلى بلدته " باتنة" ليشارك ككل سنة في التأبين الذي يقام في ذكرى استشهاد أبيه.

ربما كانت في هذه الميتة بالذات كل فاجعة جيلنا. رجل مثل مصطفى بن بولعيد , أحد رموز مقاومتنا, تهديه الجزائر جثمان ابنه في يوم استشهاده.. أي وطن هذا؟



توقف في تلك اللحظة شريط التسجيل. انتبه إلى أنني كنت فتحت المسجل, قال وأنا أقلب الشريط:

- خليك م التسجيل يا راجل.. التاريخ " الحلّوف" راه يسجل!

قلت مازحاً في محاولة للتخفيف من مرارته:

- التاريخ يسجل لكن أنا أنشر. أريد نشر هذه المقابلة كشهادة عن تلك المرحلة.

رد بتهكم مر:

- أية مرحلة؟ تلك المرحلة لم تنته يا رجل. الجزائري يعيش جدلية تدمير الذات, هو مبرمج لإبادة نفسه والتنكيل بها عندما لا يجد عدواً لينوب عنه في ذلك. تظن أن الإرهابيين كان لهم الفضل في بدعة قتل الكتاب والقضاة والأطباء والسينمائيين والشعراء والمحامين والمسرحيين.. الجزائر لها تقاليد في قتل مثقفيها.. وأنا كنت في صفوف المجاهدين عندما في خدعة هدفها إلحاق ضرر نفسي بالمقاومة, أوحت فرنسا للعقيد عميروش بأن بين رجاله من يعملون مخبرين لصالح الجيش الفرنسي. فقام في يوليو 1956, وبعد محاكمة سريعة, بقتل ألف وثمانمائة من رجاله, في حادثة تاريخية شهيرة باسم " La bleuite". فوراً وجهت أصابع الاتهام إلى المثقفين, أي إلى المتعلمين الذين تركوا دراساتهم ليلتحقوا بالجبهة, والذين بسبب علمهم وثقافتهم الفرنسية لم تكن جبهة التحرير تثق في ولائهم. أما القتلة الذين انقضوا عليهم فكانوا رفاقهم من المجاهدين القرويين والأميين في معظمهم, والذين منذ البدء لم يغفروا لهم تميزهم عنهم بالمعرفة. واليوم أيضاً لم يتغير شيء. كل جاهل يثأر لجهله بقتل مثقف بعد المزايدة عليه في الإيمان والتشكيك في ولائه للوطن. وها نحن في ما بقي لنا من ضحايا الإرهاب ضد المثقفين.

توقف ليسألني فجأة:

- هل اشتريت تلك اللوحة؟

وقبل أن أجيب, فتح الجارور يبحث عن شيء. أخرج ولاعة, أشعل السيجارة التي كان ممسكاً بها طوال الوقت.

وبدون أن أقول له شيئاً أجاب متهكماً من تعجبي لتدخينه في المستشفى:

- لا تهتم.. أنا أنتمي إلى جيل من الرجال المجبولين بالعصيان.

ثم أعاد سؤاله بصيغة أخرى:

- ماذا ستفعل بتلك اللوحة؟

- سآخذها معي إلى قسنطينة عندما أعود بعد أسبوعين أو ثلاثة.

ثم أردفت خشية أن يكون قد غير رأيه:

- ستبقى بتصرفك. بإمكانك أن تراها عندما تزور قسنطينة.
رد مع اقتباس