عرض مشاركة واحدة
  #23  
قديم 05-27-2010, 12:31 AM
الصورة الرمزية مُنتهى آلرقـه
مُنتهى آلرقـه غير متواجد حالياً
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: الأمآكن الي مريت إنت بيهآ .,,
المشاركات: 1,259
مُنتهى آلرقـه is on a distinguished road
افتراضي

لم أعد أتردد على قسنطينة. لم يبق لي فيها أحد ولا شيء. آخر مرة زرتها منذ سنة ونصف لأحضر جنازة ابن أخي حسان.شعرت أنها مدينة لم تعد تصلح إلا صورة على بطاقة بريدية أو جسراً على لوحة. بدت لي جسورها هرمة تعبة, كأنها شاخت وتساقطت عنها حجارتها, كأفواه تعرت عن أسنانها, كسحنة من يعبرونها بملامح تعرت من تعابيرها, مسرعين حيناً.. متثاقلي الخطى أحياناً أخرى, تائهين حائرين, كمن ينتظر فاجعة.

- ربما لأنك زرتها في ظرف حزين.

- ما كان لي يوماً معها موعد سعيد. دوماً غادرتها مفجوعاً. رافضاً عقد ميثاق مع الوحل الذي أتى على كل شيء. لا أريد أن أكون هناك عندما تخلع قسنطينة حجارتها.. وتنزلق نحو وهد الهاوية.

صدقني منذ اغتيال بوضياف أصبحت أكره حتى السفر إلى الجزائر, فبموته مات شيء فينا. عندما جاؤوا به متضرعين كي ينقذ الجزائر ويكون رئيسها, ما ظنوا أن ذلك الرجل الذي جبلته السجون والمنافي وخيانات الرفاق, على هزاله, ما كان يصلح لإبرام صفقة فوق الجثث فحولوه إلى جثة كي نتعلم من جثته.

ألا ترى كل ذلك الحجر المتساقط علينا بعده؟ بإمكاننا الآن أن نواصل التراشق بذلك الكم من الأسئلة. ما عاد السؤال " من قتل بوضياف؟" صار :" صوب أي مصب ذاهب بنا الوحل؟ صوب أي وحل ذاهب بنا التاريخ؟"



ساد بيننا صمت الفاجعة.

ثم , لا أدري كيف حدثت الأشياء. اتجهت نحو السرير كمن يحتضن صخرة خشية أن يجرفه السيل, ضممته.. وفاجأني البكاء.

حتماً, كانت دموع مؤجلة تجمعت داخلي كغيمة مثقلة تبحث عن جو مناسب لتهطل.

قلت كمن يبرر حماقة:

- خالد.. نشتيك.

لم يحتج لأنني ناديته خالد, ولا تعجب أن يكون حبه ذريعتي للبكاء.

تصرف كما لو كان من عادة الرجال أن يبكوا. ضمني دون أن يفهم ما بي, أو ربما أدرك أكثر مما قلت, لكنه لم يبكِ, من مثله يدمع فقط, قال:

- لا تحزن.. خلقت الأحلام كي لا تتحقق!

أثناء ضمه لي اقشعر جسدي وأنا أصطدم بالفراغ الذي خلفته ذراعه الناقصة. كنت أختبر لحظتها كيف ضمها. كيف بإمكان رجل بذراع وحيدة أن يضم إنساناً آخر إلى صدره. لم أعد أدري أكنت أبكيها فيه.. أم أبكيه فيها؟ أو أنني أبكي نفسي بينهما.

هي التي كانت هنا وجلست على هذا الكرسي مكاني. لكأنها ما زالت بيننا. أشم عطر غيابها.



عندما أراد بعد ذلك أن يغادر سريره ليودعني, أوقع المزهرية بحركة من يده وهو يحاول الاستناد إلى الطاولة.

انحنيت متأسفاً أرفعها من الأرض وأجمع الورود.

قال كمن يعتذر عن حماقة:

- في الفترة الأخيرة أصبحت مصاباً بعمى الأطراف. ما مررت بشيء إلا واصطدمت به. دعك من جمعه.. ستحضر الممرضة للملمته.. إنه ورد فقط وهو آيل للذبول!

ثم أردف بتهكم وحده يتقنه:

- حتى وإن سقطت ذراعي.. حاذر أن تلتقطها.

- أنت تعاكس قصيدة محمود درويش.

" سقطت ذراعي فالتقطها

وسقطت جنبك فالتقطني"

قاطعني مواصلاً:

- " واضرب عدوك بي.."

- أتعرفها؟

رد مبتسماً:

- أعرفها؟ كم أعرفها! كانت القصيدة المفضلة لصديقي زياد. كان دوماً يقول: ليتني كاتبها. فأعلق " لا تهتم.. إن سقطت سألتقطك بذراعي الوحيدة". لأنني مع زياد كنت أعرف كم العدو الذي سأقذف بجسده في اتجاهه. لكنك إن التقطت ذراعي فعلى من ستقذفها؟

واصل بسعادة:

- بالمناسبة عندما أغادر المستشفى سأطلعك على بعض أشعار زياد.

- أما زالت في حوزتك حتى اليوم؟

- طبعاً.. قد أفرط بلوحاتي ولا أفرط بها.. مشكلتي دوماً كانت إرث الشهداء.

افترقنا دون أن أدرك إن كان يومها أكثر سعادة أو أكثر حزناً من العادة.

كان يتصرف باستخفاف المفلس. يدخن ويدرك أن في السجائر مضرة له. وطلب مني أن أحضر له قارورة ويسكي صغيرة من تلك التي تقدم في الطائرات لملء كأس واحدة, غير معني بأنه ممنوع من تناولها مع دوائه. وينسى أن يأخذ دواءه لأنه يدري أن لا جدوى من الدواء. ويأكل أشياء قد تتدهور بها صحته عسى بها ترتفع معنوياته التي لا تتغذى سوى بالمحظورات.

أظنه كان سعيداً, غير أن السعادة لم تكن لها علاقة بباقة الورد, ولا بالشوكولاطة الفاخرة التي أحضرتها له, والتي وضع حبات منها في جيبي وهو يودعني, ولا بذلك الكتاب الذي تلقاه منها, كما تلقى هامنغواي البندقية من زوجة أبيه.

سعادته كانت بسبب سماح الطبيب له بمغادرة المستشفى يوم الأربعاء, فقد كان يخطط لمشاريع كثيرة أولها زيارة معرضه وجمع ما بقي من لوحاته.

أما مرارته, فكان سببها السري على الأرجح كون المرأة التي أحبها عادت بعد أن شفي منها لتعوده وتتفرج عليه في بشاعة مرضه الأخير.

هو نفسه قال مرة إنه عندما يشعر بأنه أصبح بشعاً في علاقة, ينهيها ويهرب حتى عندما يكون الطرف الآخر وطناً. لكن أين كان بإمكانه أن يهرب وهو رهين سرير المرض؟

أتوقع أن يكون استأصل الزائدة العاطفية وراح يختبر قدرته على تجميل البشاعة بالسخرية. كذلك اليوم الذي اعتذر لي فيه مازحاً لعدم استطاعته مغادرة سريره كالعادة والجلوس معي بسبب استلقائه على ظهره ووجود ذراعه الوحيدة موصولة إلى أنبوب مصل الدواء.

قال متهكماً:

- في هذا الوضع تماماً رسم ميكيل أنجلو سقف كنيسة ( كابيلا سيستينا). ظل هكذا يرسم وهو ممدد عارياً على السقالة لعدة أشهر ويده اليمنى مرفوعة إلى السقف. كان يرفض الاستعانة بالمساعدين ويصر على إنجاز رسم السقف وحده. وكان لأوجاع جسده يقول " أعيش في الجحيم.. وأرسم لوحة". وكان البابا يتسلق السلم الخشبي ويصعد للتجسس عليه ومباركته!

أحياناً يكرم المرء في وضع مهين! وهو ما يذكرني بقول جميل لمناضل سيق إلى الشنق. فسئل قبل إعدامه " هل ليك ما تقوله قبل الموت؟" فأجاب جلاده " يكفي فخراً أن أموت وقدماي فوق رؤوسكم".

ليست المهانة أن أكون في هذا الوضع. إنما في كوني هنا أضاجع الموت في سرير. قصدت السرير دوماً لمنازلة الحب!
رد مع اقتباس