عرض مشاركة واحدة
  #25  
قديم 05-27-2010, 12:34 AM
الصورة الرمزية مُنتهى آلرقـه
مُنتهى آلرقـه غير متواجد حالياً
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: الأمآكن الي مريت إنت بيهآ .,,
المشاركات: 1,259
مُنتهى آلرقـه is on a distinguished road
افتراضي

الفصل السابع



ثم جاءت.

انخلعت أبواب الترقب على تدفق ضوئها المباغت.

دخلت.. وتوقف العالم برهة عن الدوران.

توقف القلب دقة عن الخفقان كما لالتقاط الأنفاس من شهقة.

إعصار يتقدم في معطف فرو ترتديه امرأة. أيتها العناية الإلهية..

ألا ترفقت بي!

أيتها السماء.. أيها المطر.. يا جبال الألب.. خذوا علماً أنها جاءت.

التقينا إذن..

الذين قالوا: وحدها الجبال لا تلتقي أخطأوا, والذين بنوا بينها جسوراً لتتصافح من دون أن تنحني, لا يفهمون شيئاً في قوانين الطبيعة.

الجبال لا تلتقي إلا في الزلازل والهزات الأرضية الكبرى, وعندها لا تتصافح إنما تتحول إلى تراب واحد.

أكان بوسعنا تفادي الكارثة؟ ها نحن نلتقي حيث رتبت لنا المصادفة موعداً في آخر معاقل الحزن.. كلعنة.

عمي صباحاً سيدتي الجميلة.. كفاجعة.

هي ذي.. كيف يمكن فك الاشتباك مع عينيها. كل ما أردته كان النظر إليها بعد هذا الغياب. كانت تبدو كشجرة ليمون. تساقط زهرها دهشة عندما رأتني. كان آخر مكان توقعت أن تراني فيه هو باريس, في معرض رسام أنكرت وجوده خارج كتاب.

قالت:

- شيء لا يصدق.

- هي حياة ندين بها لمصادفة اللقاءات.

ردت باندهاش جميل لا يخلو من الذعر:

- يا إلهي.. ما توقعت أبداً أن أراك هنا!

قلت مازحاً:

- ماذا أفعل إذا كان كل شيء يعيدك إلي.

كنت ألمّح لقولها مرة " كل شيء يعيدني إليك" وكنت أجبتها مصححاً آنذاك: " وكل شيء يبقيني فيكِ".

قالت معلقة بذكاء:

- ظننتك غيرت عنوان إقامتك منذ ذلك الحين!

أجبت وأنا أمازحها نافضاً سترتي:

- كما ترين: كلما هممت بمغادرتك تعثرت بكِ.

ثم واصلت:

- بالمناسبة.. أجمل ما يحدث لنا لا نعثر عليه بل نتعثر به.

كنت هنا أيضاً أصحح قولها " أجمل حب.. هو الذي نعثر عليه أثناء بحثنا عن شيء آخر".

كيف الفكاك من حب تمكن منك حد اختراق لغتك, حتى أصبحت إحدى متعك فيه هتك أسرار اللغة؟

النشوة معها حالة لغوية. لكأنني كنت أراقصها بالكلمات, أخاصرها, أطيِّرها, أبعثرها, ألملمها. وكانت خطى كلماتنا دوماً تجد إيقاعها منذ الجملة الأولى.

كنا في كل حوار راقصين يتزلجان على مرايا الجليد في ثياب احتفائية, منتعلين موسيقى الكلمات.

ذات مرة قالت:

- أحلم أن أفتح باب بيتك معك.

أجبتها على إيقاع التانغو, وأنا أعيد أحلامها خطوتين إلى الوراء:

- وأحلم أن أفتح الباب.. فألقاك.

لكن الحياة قلبت لنا الأدوار. هاهي ذي تفتح باب قاعة لتزور معرضاً فتلقاني. إنه ليس زمن التانغو, بل أزمنة الفالس, بدوارها المحموم وجملها المتخاصرة في تداخلها, وارتباك خطوتها الأولى بجمل منتشية, متداخلة, كتوتر شفتين قبل قبلة, لامرأة بلغت في غيابي ثلاثين سنة.. وبعض قُبَل. ويلزمها سبع قبلات أخرى, لتبلغ عمر حزني الموثق في شهادة لا تأخذ بعين الاعتبار, ميلادي على يديها ذات 30 أكتوبر على الساعة الواحدة والربع ظهراً.. في مقهى!

الأشياء معها تبدأ كما تنتهي: على حافة ربع الساعة الأخيرة.



كانت تتأملني بارتباك المفاجأة. وكنا بعد سنتين من الغياب يتصفح أحدنا الآخر على عجل, وندخل صمتاً في حوارات طويلة لحديث لم يكن.

سألتها إن كان في رفقتها أحد.

ردت:

- حضرت بمفردي.

- حسناً إذن أقترح أن تلقي نظرة على المعرض ثم أدعوك لنشرب شيئاً معاً في المقهى المجاور.

تعمدت أن أتركها تقوم بجولة بمفردها. أردت أن أحافظ على جمالية المسافة لأراها بوضوح, ولأتجسس على ذاكرتها المعلقة فوق أكثر من جسر.

كما توقعت, بعد بضع لوحات, ذهبت صوب تلك اللوحة. رأيتها تقف أمامها طويلاً كما لأول مرة منذ عشر سنوات.

كما من دون قصد قصدتها. كانت تجيل النظر في دليل اللوحات. سألتها إن كانت أحبت تلك اللوحة.

قالت كما لإخفاء شبهة:

- كنت أعجب فقط أن يكون الرسام باعها. أرى عليها إشارة حمراء.

سألتها مستفيداً من الفرصة إن كانت تعرف الرسام.

قالت:

- لا.. أبداً. لكن من عادة الرسامين أن يحتفظوا بلوحتهم الأولى. وحسب التاريخ المكتوب عليها , هي أول لوحاته, بينها وبين بقية اللوحات أكثر من ربع قرن!

- هل كان يعنيك شراؤها؟

قالت بعد شيء من التردد:

- لا أدري..

ثم واصلت:

- في جميع الحالات بيعت, وعلي أن أختار غيرها.. لا أستطيع التركيز على شيء وأنت معي. سأعود مرة ثانية لاختيار لوحة أو لوحتين.

قلت مستدرجاً إياها لاعتراف ما:

- مازلت غير مصدق أننا معاً.. بربك ما الذي جاء بك إلى هنا؟

أنا الذي كنت أملك سوء الظن بأجوبتها, لم أكن مهتماً باختيار صيغة لأسئلتي. كانت تملك إغراء الصمت المفاجئ عن اعتراف كادت تطيره ريح المباغتة. ولذا بين جملتين تنحسران كذباً كانت تشد فستان اللغة صمتاً.. إلى الأسفل.

- إنها مصادفة لا أكثر.. أمدني أخي ناصر ببطاقة إعلان عن هذا المعرض لعلمه أنني أحب الرسم... غادرت باريس منذ 10 سنوات وما عدت منذ ذلك الحين أتابع الحياة الثقافية هنا.

لم أفهم سر إصرارها على إنكار وجود هذا الرجل ذات يوم في حياتها.

أكان ذلك بسبب عاهته؟ أم كهولته؟ أم كانت فقط ككل الكتّاب لا تحب انفضاح شخصياتها في واقع الحياة؟
رد مع اقتباس