#1
|
||||
|
||||
صلاة التراويح
في رمضان تتشعب الأهواء ويتسابق أهل الدنيا والدين، ويهاجر الراكعون الساجدون إلى الله ورسوله، ويهاجر غيرهم إلى القنوات والمسلسلات، ويبذل الباذلون جهدهم في سبيل اكتساب أكبر قدر من الأجر الديني أو الدنيوي.
وكثير من الناس يقضي نهاره صائماً ذاكراً لله تعالى، حتى إذا جنّ الظلام، واختلط جاءته القنوات بمذق هل رأيت الذئب قط؟! ويغفل ناس عن أهمية ليالي رمضان، وأنها فاضلة مباركة، ويشرع فيها الذكر والتلاوة وقيام الليل، وهذا خير لهم من إضاعة الأوقات بما لا فائدة فيه. وهذه الليالي منحة ربانية ينبغي علينا شكرها ببذل مزيد من الطاعات وفعل المعروف. وإن من أفضل الطاعات في هذه الليالي قيام الليل؛ فقد قامه النبي -صلى الله عليه وسلم- وقامه أصحابه، ولم يشرع له النبي -صلى الله عليه وسلم- سنة محضة، بل شرع قيام الليل في رمضان وفي غير رمضان، وأكد على قيام رمضان بمزيد من الثواب من دون تقييد له بصفة مخصوصة، وليس لعدد الركعات عداً محصوراً، ولكن (صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلّى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى)، وقد أخبرت عائشة أن صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت إحدى عشرة ركعة، والثابت عن عمر -رضي الله عنه- أنه جمع الناس على إحدى عشرة ركعة، ولم يحفظ غير ذلك، على أن صلاة الليل مثنى مثنى كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم، والأمر في عدد الركعات واسع بالإجماع، والأفضل ما كان موافقاً لهدي النبي صلى الله عليه وسلم. والصلاة من حيث الجماعة والإفراد تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: ما داوم النبي -صلى الله عليه وسلم- على صلاته منفرداً كالسنن الرواتب؛ فهذه لا يشرع فيها الجماعة. الثاني: ما داوم النبي -صلى الله عليه وسلم- على صلاته جماعة كصلاة الكسوف وصلاة العيدين؛ فهذه لا يشرع فيها الإفراد. الثالث: ما فعله أحياناً جماعة وأحياناً منفرداً كقيام الليل، فصلى بابن عباس وابن مسعود وحذيفة وبعض أصحابه في رمضان جماعة، وأكثر صلاته منفرداً، وقال لأصحابه في رمضان: (صلّوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاة المكتوبة)، وهو نص صريح في أن صلاة المرء في بيته في رمضان وفي غير رمضان أفضل من صلاته في المسجد، وهذا رأي مالك والشافعي، وفي المدونة: (إن كان يقوى في بيته فهو أحب إليّ، وليس كل الناس يقوى على ذلك، وقد كان ابن هرمز ينصرف فيقوم بأهله، وكان ربيعة وعدد غير واحد من علمائهم ينصرف ولا يقوم مع الناس، قال مالك: وأنا أفعل مثل ذلك). بل إن بعض الصحابة أنكر قيام رمضان جماعة حتى قال ابن عمر: (تنصت كأنك حمار؟!) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه برقم (7789). والوارد من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أصحابه كانوا يأتمون به بعدما يقوم للصلاة، كما فعل حذيفة وابن عباس وابن مسعود، وكذلك أصحابه في رمضان، مما يدل على أن الأصل في قيام الليل الإفراد وليس الجماعة، وأيضاً فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أغلب وقته يصلي منفرداً في الليل، وحديث (صلوا أيها الناس في بيوتكم) نص صريح، وعمر -رضي الله عنه- لم يطلب من الناس ابتداء أن يجتمعوا على إمام واحد، وإنما رآهم أوزاعاً متفرقين (يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب)، وهذا يؤكد أن قيام الليل من حيث الإفراد والجمع مبني على المصلحة، وفعل عمر -رضي الله عنه- مبني على قاعدة قطعية من أصول الشريعة -كما نص عليها الشاطبي وابن تيمية- وهي الاجتماع ووحدة الكلمة، وعمر -رضي الله عنه- لم يفعل هذا التماساً لفضيلة، وإنما فعله علاجاً لمشكلة، ولذا فقد صرح بأن هؤلاء الذين اجتمعوا على إمام واحد تركوا الفاضل إلى المفضول بقوله: (نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون) أي: تركوا آخر الليل وقاموا أوّله، وهذا يدل على أن ما فعله ليس عبادة محضة، وإنما هي مصلحة مرسلة. نعم.. قيام رمضان أفضل من قيام غيره، والفضيلة ليست في صلاة التراويح بمفهومها (وهي جمع الناس على إمام واحد في المسجد في رمضان)، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يسنها ولم يشرعها، ولذلك قال عمر رضي الله عنه: (نعم البدعة هذه)، وإنما الفضيلة في قيام ليالي رمضان، كما في الحديث: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه)، وفعل عمر -رضي الله عنه- في جمع الناس على إمام واحد، لا يدلّ على السنية، لأن عمر ليس مشرعاً، وإنما مفسر للشريعة، وهذا معنى حديث: (اقتدوا باللذين من بعدي)، وبفعله نعلم أن هذا العمل مشروع، ومشروعيته هي أن الجماعة في قيام ليالي رمضان جائزة، وأنها مبنية على المصلحة، وقد فعلها النبي صلى الله عليه وسلم، وليس معنى هذا أن تكون صلاة التراويح عبادة محضة كالسنن الرواتب، فإن هذا من التعبد لله بما لم يشرّعه، والأعمال بالنيات. فصلاة التراويح ليس لها خصوصية بذاتها، وليس لها أحكام خاصة تتعلق بها مقيدة بزمن محدد وهو شهر رمضان، وإنما أحكامها هي أحكام قيام الليل. وعلى هذا فلو أن أناساً قاموا في ليالي غير شهر رمضان جماعة فإن فعلهم جائز بناء على أن الجماعة جائزة في قيام الليل، لا على أن لتلك الليالي فضيلة معينة. وفي السنن وصححه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة). وهذا فيه فضيلة القيام مع الإمام حتى ينصرف، وليس فيه تفضيل صلاة المرء في المسجد على الصلاة في البيت، والحديث الآخر فيه تفضيل الصلاة في البيت على الصلاة في المسجد، وهذا محل نظر! والله أعلم.
__________________
|
|
|